غياب رغبة الحوار المتمدن.. الولي ولد سيدي هيبه

أربعاء, 09/02/2015 - 12:50

أن تعتاد عدم التفكير في أخطائك يعطيك إحساسا ضعيفا بالصواب و يجعل التعصب أول طرق دفاعك عن نفسك" توميس بين "دعنا لا نقف كثيرا على ما قد فات، فعلينا ان نستعد لما هو آت" ـ قول مأثور

 

وتمر أغلب الأحزاب السياسية الوازنة بحكم الحضور والتواجد على الساحة المضطربة في "مرتونها" العبثي كئيبة، رتيبة و خائرة بطواقم بدأت تصدأ وتتآكل من جراء ما تتعرض له من عوامل التعرية النفسية والمعنوية الذاتية وغياب بنود مسطرة أخلاقية موضوعة بالإجماع من ناحية، وافتقاد منطلقات حركية توجيهية راسخة تتقاسمها في الفضاء والزمان المشتركين كرها إن لم يكن طوعا من أجل بلد هو مرحليا أحوج ما يكون ـ بكل ما تعنيه الكلمة ـ إلى أحزاب قوية، سوية و فعالة تعينه على اللحاق بركب قاري تتحسن في المجمل أوضاعه الديمقراطية باضطراد و تتطور تجاربه السياسة على أكثر من صعيد حتى استطاعت عمليا أن تغير مسارات منحرفة عديدة و تحبط محاولات فردية و شاذة للإبقاء على أنماط من الحكم أرادت عنها شُعوبُها بدلا تتطلبه بإلحاح سنة التناوب الذي أضحى مطلبا لا تنازل عنه و لا مناص. و هي الوضعية بهذه الصورة القاتمة التي أوجدت الخواء الإطاري القائم لتحشر بداخله كل هذه الأحزاب و تسد عليها فيما بعد كذلك منافذ التطور و التحول الضرورية لمواكبة المنطق السياسي السلس الجديد الذي بات قائما من حولها.

و مما لا شك فيه أن تعثر الحوار الذي سالت حول احتمال قيامه أحبار بكل الألوان المتاحة و المحظورة في فنون السياسة و مدركاتها، و ريق الكثيرين كزبد البحر عند كل مد و جزر، تعثر لا يمنع الغموض من أن يلف عجز الأطراف عن تَصريف الوطن في زمن التحاور المفضي إلى استقرار سفينته، الوطن الذي ما زال بالكاد ناجيا من أمواج ثورات الربيع العربي القائظ و تتقاذفه و تتربص به الدوائر حمم بركان التحول التي بدأت هي الأخرى تستشيط غضبا ـ و إن ما زالت على استحياء ـ قشرته المحتفظة في داخلها بلهب رواسب الماضي و استعصاء مقومات بقائه حية على الاقتلاع و الانصهار في دولة القانون و المدنية.

و لقد كشر كل طرف عن أنيابه و شحذ أظافره حتى لم يبق إلا العض كان ما يعري ضعفها جميعها عن الاستئساد من خلال الظهور ككيانات بارزة و مؤثرة، و إثبات عملي للجدارة بالريادة و بالاستجابة المطلقة لمتطلبات الاستقرار و محاربة مظاهر الظلم و الإقصاء و الغبن و الاستئثار بالدولة مناصب و تسييرا و توجيها و مقدرات تحت عناوين الزمرة و اللوبي و التجمعات المالية و الارستقراطية القبلية و الاثنية و ما يكون من الشرائحية المستجدة.

و ها هي ذي كل الأحزاب موالاة و معارضة لا تجيد حتى حوار "الرغبة في الحوار" و لا ترسم له مناطق محايدة أقرب إلى الوطن و قواسم مشتركة ثابتة يرجع إليها لتصحيح كل مسار عاثر. و هذا ديدن كل الدول التي تجاوزت عقد الماضي الظلامي لديها و عقدة "الأنا" المتخلفة التي لا تلائم عقل الدولة و صيرورتها و فوقيتها و جوهريتها.

و قديما جدا فكر الإغريق و هم أهل اليُونان اليوم الذين كانوا يعبدون في وثنيتهم الخرافية التي حملتها "ميثولوجيا" طافحة بعشرات الآلهة موزعة على كل منافع الدنيا كـ"أثينا" للجمال و "بزيدون للبحار" و "زيوس" سيد الأوليمب، و أنصاف الأرباب التي تغص بهم إلياذة هومريوس L’Odyssée d’Homère "يوليس" و "آشيل" و كأبطال حرب طروادة و "حصانها"، في كيان شامل يسقط "الأنا" و يضعف سطوة الخرافة أسماه الجمهورية، ذلك الكيان الذي لم يهب نفعَه العربُ فانكبوا عليه قراءة و تأويلا فترجموا و استنبطوا و اقتبسوا و شطبوا و حسنوا و زادوا لينهل العالم الغربي من سعة صدورها و قوة معتقدهم و فرسان ميدان العلوم الذين أنجبوهم.

هو إذا ضعف الإيمان بالوطن في حلته الحديثة و سياق الدولة المركزية و حضور فكر "السيبة" و متلازماتها من أمراض القلوب و تضخم الأنا. عوامل شئنا أم أبينا تمنع مجتمعة سيادة منطق الجمهورية العادل و تعنت منطق أرستقراطية النفوس المتخمة بحب الزعامة و الحكم و الرئاسة و الريادة و بسط اليد الطولى على المقدرات و منافذ الجاه و الحظوة. غياب مفهوم الدولة و أبجديات الحوار البناء و المنقذ من شطط السياسة التي تفتقد إلى مرتكزاتها من سعي إلى ضمان الاستقرار و توطيد الوحدة و حماية الوئام و نشر العدالة بكل أوجهها و في كل أبعادها.

و لأنه من دون التوجه إلى الحوار الحضاري الصادق المضمخ بالحس الوطني العميق فإنه لا سبيل بالنتيجة الحتمية إلى استقام توازن الدولة على أسس الديمقراطية و بروز هيبتها من خلال التمكين للقانون و اعتدال شؤونها في العمران بالتسيير المتقن لمقدراتها و بناء مناعتها بنشر العدالة و سعادة و طمأنينة ساكنتها.

و لأن الأمر في منطلقه عموديا و مبتغاه أفقيا هو فقط كذلك، فإن الأحزاب مطالبة ـ للخروج من شرنقة تخلفها عن السياقات الحديثة و التحجر على مقاسات الماضي المتجاوزة طرحا و فكرا و مرجعية و جمودا ـ بأن تراجع خطاباتها وتقنن مضامين فكرها و توجهات زعاماتها و منظريها و نخبها و تكيفها مع متطلبات التحول المتلاحق و تسعى إلى أن تنفث في حناياها دماء جديدة تسعف نبضها الذي بات ضعيفا و تطلق إرادتها المصابة بالخور و توسع أفق الحوارية عندها نهجا و مسعى و وسيلة تحمل في طياتها الخلاص و الاستقرار و تستقي حيويتها من كل روافد دولة العدل و المواطنة أسوة بهادي البرية عليه الصلاة و السلام (أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربضِ الجنة لمن ترك المِراءَ وإن كان مُحقّاً) من لفظ الحديث بكامله كما في سنن أبي داود: "عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".