على هامش أسبوع الفرانكفونية... دقائق للعربية!

سبت, 03/19/2016 - 14:21

على الرغم من محافظة الرئاسة الموريتانية على استخدام اللغة العربية في الخطابات الرسمية والتصريحات الوزارية، وبعض المظاهر الأخرى الشكلية، فإن الانطباع السائد بين الناس اليوم هو أن اللغة العربية تتراجع ويتقلص استخدامها ويتناقص اعتبارها عمليا في كافة قطاعات الدولة، بينما لا وجود لها في القطاعات الخاصة ولا حتى في بعض المؤسسات العمومية وشبه العمومية، لاسيما ذات الطابع الاقتصادي والفني.

ومع نص الدستور بشكل صريح على رسمية اللغة العربية، ورغم كونها اللغة الأم لأغلبية الشعب الموريتاني واللغة الدينية لكافة شرائحه دون استثناء، فإنها منذ سنوات يضيق عليها الخناق وتطرد بشكل منهجي على محورين رئيسيين:

المحور الأول ـ والأخطر ـ محور التعليم والتكوين المهني حيث أقصيت اللغة العربية من مناهج الشعَب العلمية والمعاهد الفنية، وحصرت في جزر قاحلة تتمثل في الشعَب الأدبية والأصلية. ناهيك عن عدم الاهتمام بعملية تدريسها في المستويات الثانوية وما دونها حتى الروضة، وغياب الدعم الضروري للتلاميذ الذين لا تكون العربية لغة الرضاعة لهم، في تلك المراحل الابتدائية.

*

قبل أيام كَتبت تدوينة عن الإقبال السخي المكثف من معظم المؤسسات التجارية والهيئات العمومية والخصوصية وغير الحكومية على رعاية أسبوع "اللغة الفرنسية والفرانكفونية"، ملاحظا المضاف الأخير (الفرانكفونية) ومحذرا من معانيه الاستعمارية المعروفة، ومستغربا أن القائمين على هذه التظاهرة دعوا صراحة إلى إقناع "كل من لم يؤمنوا بعدُ بأن اللغة الفرنسية هي لغة موريتانية" كسائر اللغات الوطنية الأخرى أو أفضل، تقريبا أو تلويحا!

لاحظت تزامنا مع ذلك، أو بالصدفة، ظهور تدوينات وتعليقات كثيرة تتضمن نقدا صريحا أو مبطنا للمدافعين عن اعتبار واعتماد اللغة العربية، بل وتعريضا بهذه اللغة نفسها.

ولعل من أكثر تلك الانتقادات غرابة وتجنيا: الادعاء بأن "القدسية" هي منشأ مناصرة اللغة العربية لدى مناصريها الذين ذهب البعض إلى أنهم "نساك وأحبار"، وأن هذه هي مشكلتهم بالذات.

لكأن الموريتاني البسيط القادم من البادية أو من أقصى المدينة؛ لا، بل المتخرج من جامعة أو حتى معهد تقني كامل التعريب في بلد ذي تعليم عربي، ولا يستطيع التقدم لوظيفة رسمية، أو خصوصية، ولا النجاح ـ إن تقدم ـ في اختبارها المؤسس على "إجادة الفرنسية"... لكأنه أعمى أخطأ طريقه "الصحيح" إلى محراب مسجد أو صومعة راهب!!

لكن ـ مع ذلك ـ تلك هي مشكلته! لقد كان عليه أن يكون عارفا بالفرنسية ليعيش في هذا البلد عيشا كريما، أو يتوجه من الأصل إلى المحراب أو الصومعة ليموت هناك من الجوع والمذلة، وسيتكرم المزدوجون (أي الذين يعرفون مع عربيتهم "المخبأة"  قدرا ما من الفرنسية) بالترحم عليه!

ويبدو أن "التطور" الوحيد في مواقف بعض الذين لا يؤيدون الدعوة لإنصاف اللغة العربية، أو لاحترام أبي القوانين (الدستور) هو أنهم باتوا يفضلون الاحتماء بقلعة أكثر حصانة من الفرنسية، كالانجليزية مثلا. بل ينص بعضهم على نفي دفاعه عن الفرنسية. وقد يظن أن ذلك يزيد من ألقه الثقافي، ولكنه يتحاشى الاقتراب من اللغة العربية حتى لا يتهم بـ"اللاهوتية" اليوم، بعدما كان سيتهم بـ"التخلف" أمس!

وإذا امتطينا نفس المنهج الذي يحاول خنق حياة اللغة العربية وربطها بـ"القداسة" الدينية مثلا، فإنه يمكن اليوم ربط اللغة الفرنسية، في موريتانيا وجيرتها من الدول الأخرى، بـ"سياسة" المصالح الإقليمية الفرنسية! لقد باتت "لغة سياسية" أكثر منها لغة علم واتصال، وفي أحايين كثيرة تطفو على السطح فقاقيع الابتزاز في شأنها، سواء من خلال منظمة La Francophonie أو ربما من هيئات الحكومة الفرنسية مباشرة!

بالطبع فإن هذا لا يعني المثقفين ولا الأتباع الذين يتبنون اللغة الفرنسية، ولكنه يمدهم بشكل تلقائي بمصداقية، بل ورفاهية، ومن ثم يستعذبونه!

غير أن هناك حقائق لا تخفى على أحد قد تريحنا من بسط الحجج والاسترسال في هذا الموضوع:

أولا: إن حمل اللغة العربية للقرآن الكريم وشريعته، ليس عبئا عليها ولا حجرا، بل هو أسمى أوسمتها وأعظم فوائدها، وأقوى أسباب انتشارها واستمرار نضارتها ووحدتها.

ثانيا: اللغة العربية اليوم، وكما كانت بالأمس، لغة إنسانية تسع الديني والتاريخي وترخي العنان للآني المتغير. ولم تكن فقط لغة المحمديين الذين أقاموا الدين وحدثوا وأحدثوا في الحضارة الدنيوية... إنها أيضا لغة بطرس البستاني وإيليا أبو ماضي واليازجي وآل خوري، ومراد ميخائيل وعزرا حداد وأنور شاؤول... وغيرهم من نصارى ويهود العروبة في عصر الإسلام.

ثم إن المهتمين باللغة العربية والمستخدمين لها في العصر الحالي على أوسع نطاق، ليسوا من رهبانها ولا أحبارها ولا حتى محبيها... فقد استثمر ستيفن جوبز وبيل غيتس مئات الملايين من الدولارات في تطوير برامج التكنولوجيا بالعربية على أنظمةMACintosh وWindows وتطبيقاتهما. ومن المستبعد أن تكون دوافعهما عاطفية أو دينية أو حتى إعجابا بلغة الضاد. بل كان دافعهم هو نفسه الذي جعلهم يطورون تلك البرامج باللغة الفرنسية وغيرها.

ثالثا: كما لم يحتكر الدين اللغة العربية ولم يحرم الناس من استغلالها المطلق في التعبير عن أنفسهم وواقعهم ومشاعرهم بالصيغ التي تناسبهم، فمن باب أولى أن لا تحتكرها "الأيديولوجيا" ويختطفها أصحاب الدعوات القومية أو السياسية الحزبية. وبالتالي فإن محاولة البعض ربط اللغة العربية بالدعوات القومية أو العرقية العنصرية، هو مجرد تشويه وتخويف غير بريء!

رابعا: تاريخية اللغة العربية وتقادم صيغها وانقراض بعض ألفاظها أمر طبيعي؛ فهي وسيلة تعبير عن أحوال وأذواق الناس ووعاء لتسجيل مسيرتهم وتطور معائشهم... فمن الطبيعي أن تموت فيها بعض الخلايا ويتجدد البعض ويخلق الجديد من وحي الواقع، حتى وإن كان من لغة أو لهجة أخرى... كما هو حال كافة اللغات والفنون.

خامسا: إذا انطلقنا من اختيارات "علمية" ومصالح استراتيجية تستشف المستقبل، وسلمنا أن ذلك سبب وجيه ودافع بريء لنبذ اللغة العربية، فإنه حتما سيجعلنا نطلّق اللغة الفرنسية بالثلاث ونتركها وراء ظهورنا. وذلك لسبب أساسي هو أن قوة الفرنسية مرتبطة بدولة فرنسا كقوة كبرى، وهذا حاليا أعلى مستوى لها اتجاهه الهبوط (بينما العربية تعيش سياسيا أدنى مستوى لها اتجاهه الصعود، بسبب حالة الضعف والتخلف والتشتت والخضوع التي تعانيها دولها).

ويتعضد هذا الأمرُ وينحسم بالاطلاع على الواقع من خلال بعض الإحصاءات والأرقام والمقارنات المنطقية. فعدد الناطقين باللغة الفرنسية (من كل الأعراق) في العالم لا يتجاوز اليوم 220 مليون شخص(تزكيه جمعية الفرانكفونية بموريتانيا إلى 274!) وهي التاسعة في الترتيب العام العالمي.

أما اللغة العربية فهي الرابعة في هذا الترتيب ويبلغ عدد الناطقين بها 480 مليون شخص.

ولكن مهلا! هذه التقديرات هي لمجموع مستخدمي اللغتين من البشر، أما إذا أخذنا إحصاءات عددِ مَن لغتهم الأم الفرنسية أو العربية، فإن الهوة بين اللغتين تزيد كثيرا، حيث ستهوي الفرنسية إلى الدرجة 18 في الترتيب العالمي (74 مليون شخص فقط) مقابل الرتبة الخامسة للغة العربية في نفس الترتيب بما يناهز 300 مليون شخص.

سادسا: لقد أدى تراجع التعريب في التعليم العام والإقبال على التعليم الخاص الأكثر تفرنسا في الظاهر، إلى إضعاف التحصيل العلمي لغير الناطقين بالعربية، وحرمان غيرهم في نفس الوقت من أي معرفة، ولو قليلة، باللغة العربية، ناهيك عن أضرار ما أحدثه منهج فصل التعليمين، من حواجز تجاوزت حد اللغة إلى ما يشبه "الفصل العنصري" الحتمي بين مكونات الشعب التي أصبح الآباء فيها حائرين بين أي النفقين يسلكون بأبنائهم، إلى تحصيل يتكشف كل يوم ضآلته وسوء نتائجه!

لقد كان اختلاط التعليم ووحدة منهاجه، في المراحل قبل الجامعية على الأقل، يتيح الالتقاء والتعارف والتفاعل بين أبناء كافة الطبقات، وتنمية القدرات اللغوية لبعضهم البعض في اللغتين معا، بل وفي اللغات الوطنية الأخرى المهملة كليا، وأعظم بها من فائدة وطنية.

سابعا: لا يعترف المختصون في اللغات واللسانيات عموما بالخصائص النمطية الجاهزة التي تقول عن لغة ما إنها معقدة أو قاصرة وبأن ترك الإنسان للغته الأم كليا أو جزئيا لصالح لغة أخرى أقوى، قد يمنحه معرفة أكبر بتلك اللغة أو بأي فوائد شخصية أخرى. والأدلة القائمة على عكس هذا التصور الخاطئ أكثر من العد؛ بادية في الصين وفي اليابان والهند، وفي الكيان الإسرائيلي الذي اصطنع على أرض فلسطين، وكانت جهوده في بعث وتدريس اللغة العبرية المنقرضة، من أهم أسباب قوته الغاشمة وتماسكه حتى الآن، مع أنه شتات من بيئات ولغات أخرى كثيرة.

ثامنا: من المسلم به اليوم لدى الناس ولدى الفرنسيين أنفسهم، أن اللغة العالمية المسيطرة على أبواب العلم ومفاتيح الاتصال ومفاصل الاقتصاد... هي اللغة الإنجليزية، وإذا قدر سقوطها في المستقبل فمن المستبعد أن يكون على يد اللغة الفرنسية بالذات!

فلماذا والحال هذه تضيع دول مواردها الشحيحة في تكريس اختيار اللغة الفرنسية، وتفردها بالاستثمار الجدي... إن لم يكن هذا عشقا عاطفيا أو تعبدا منفردا أو "إملاء"! مع أن بعض المثقفين يتصورون أو يصورون أن هذه الأسباب أو بعضها تكفي لهجران اللغة العربية ودسها في التراب!!

والخلاصة: ينبغي أن لا نجعل حالة ازدراء وإقصاء اللغة العربية عندنا، أو عند دول أخرى، وصفا مطلقا لها وعاهة عضوية فيها، لأن هذه اللغة كانت قبل قيام هذه الدول، وظلت وستظل جزءا من كيان شعوبها، ولحمة نسيج تاريخها وحاضرها، مهما ألحد فيها؛ وستتطور مع تقدمها، ولكنها لن تتقدم بمجرد نبذ هذه اللغة وتبني غيرها.

م. محفوظ ولد أحمد