موريتانيا من الانقلابات العسكرية إلى الانقلابات الدستورية

ثلاثاء, 04/05/2016 - 15:16

لقد شكل اهتداء التجمع البشري للقوانين كإطار تنتظم به الحياة السياسية، عندما وصل الإنسان مرحلة من النضج الفكري استطاع من خلاله اكتشاف التمايز السياسي.

ذلك التمايز الذي بحث له عن تفسير بدأ بتصور أن الحكام هم أبناء الآلهة ويتسلمون سلتهم منها، إلى حين وصوله إلى نظرية التعاقد الاجتماعي، الذي شكل آخر ما أبدعته الذهنية البشرية.

وعلى اختلاف طبيعة وشكل التعاقد الاجتماعي، فإن الذي عليه الاجتماع اليومي هو أن الدستور هو جوهر ذلك العقد الذي يحدد العلاقة بين الحكام والمحكومين.

ذلك أن الدستور هو المعبر عن التراضي العام الذي فيه تحدد مقومات الدولة، من خلال تحديد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي والمحددات الرئيسية لتنظيم العلاقة بين أطرافه.

الدستور بهذا المعنى هو المحدد لقواعد اللعبة التي لا تنتظم بدون، فبدونه تنهار المنظومة كلها وتشيع الفوضى وعدم الاستقرار.

في بلدنا حيث التقاليد الديمقراطية لم ترسخ بعد، والإيمان بالقانون لا يزال ضعيفا، تقف الكثير من المعوقات أمام السماح بتجذر الممارسة الديمقراطية، وتكريس الاحترام الواجب لتلك الوثيقة الذهبية التي يطلق عليها الدستور.

فالفاعلين السياسيين لم يصلوا بعد درجة الاقتناع أن الصراع ينبغي أن يكون داخل النظام وليس مع النظام، وأن لدستور ليس مجرد ورقة مكتوبة بقدر ما هي إيمان بالدولة وقناعة بمشروعها الذي يسمو على التناقضات الاجتماعية والاثنية، وينصاع الجميع فيه لسلطة القانون، فهو الإيمان بالإطار العام.

في خضم هذا التوتر الانفعالي تفوح رائحة هتك عرض تلك الوثيقة الذهبية المسماة بالدستور.

ذلك العمل الذي يبدو أنه تجاوز مرحلة التفكير، وأصبح يصدح به على كل منبر، بهدف تسويقه كفكرة للقبول بمبدأ نقاشها.

هكذا تسوق الفكرة، وعلى هذا النحو يراد لها أن تقبل على الأقل من قبل النظام السياسي القائم الذي يستفيد من الواقع المترهل للقطب المعارض الذي يعيش في أزهى أيام انعدام الفاعلية.

حيث العجز عن تقديم خطاب لا يعتمد لغة التأزيم ولا يقدم البديل المقنع، ناهيك عن شيوع الصراعات الشخصية بين أطيافه، والتصلب في المواقف وغياب ثقافة التنازل والقبول بالحد الأدنى، الشيء الذي أدى إلى تضخم المشهد الحزبي بشكل عبثي.

لا يمكن تصور أن ما يتردد اليوم من ضرورة إلغاء الحدية التي تطبع المأموريات الرئاسية من خلال القبول بالتخلص من الدستور كلية، هو مجرد رأي أو منعزل عن ما شكل تمهيد لأمر معين، كما أن نقاشه ليس من الترف الفكري في أي مجتمع ناضج ليس ثمة أمرا محظورا على النقاش وتبادل الآراء حوله، لكن التفكير محكوم بقانون، فما أجمع المجتمع على قبوله كقواعد عامة تحكمه، التفكير في هدمها ليس مستساغا للمصلحة العامة، فما بالك إذا كان الغرض مصلحة شخصية أو لحظية.

لقد فشلت تجربة الدولة المدنية الثانية أو الجمهورية الثالثة حين خيرت الدولة العميقة تمسكها بتقاليدها السلطوية، ورفضت حتى التفكير خارج منظومتها الفكرية.

واليوم يراد للبلد أن يفشل فيه مشروع الدولة بالقضاء على آخر أمل متشبث به، حين يتم الترويج لإلغاء الدستور أو القبول باتفاق سياسي يعجل بالإنتخابات الرئاسية.

وهو الجدل السياسي الذي يراد به اليوم الدفع بالطيف السياسي والمجتمعي للقبول بالقضاء على آخر ما تبقى من مقومات الدولة.

مازالت موريتانيا تفصلها حوالي ثلاث سنوات عن تنظيم انتخابات رئاسية، وهي فترة طويلة نسبيا كان بالإمكان الانشغال برفع تحديات التنمية التي تواجه البلد منذ استقلاله، غير أن الجدل السياسي حول ذلك الاستحقاق بدأ مبكرا من خلال تصريحات بعض أعضاء الحكومة تدعو إلى فتح الباب أمام الرئيس الحالي للترشح لمأمورية ثالثة أو أكثر، رغم إبقائه هو نفسه على الغموض حيال هذه المسألة، وعلى الرغم من أن الطيف السياسي يجمع كله على موقف واحد من المسألة، حين تم التشديد على أن نصوص الدستور واضحة ولا تسمح لأي شخص بمزاولة أكثر من ولايتين رئاسيتين وتعتبر أن الأحداث التي يتم الترويج لها اليوم لا تعدو أن تكون انقلابا دستوريا.

هذه الخطوة إذا ما قدر لها النجاح، من شأنها أن تعيد البلد إلى المربع الأول، أي ما قبل الإنقلاب على الرئيس معاوية ولد سيد احمد الطايع، والقضاء على آخر ما تبقى من الديمقراطية بعد أن تجرع العالم مرارة الإنقلاب على الرئيس المنتخب ديمقراطيا سيدي ولد الشيخ عبد الله، وهو أمر مقلق لطيف كبير من المجتمع المدني والمعارضة السياسية.

في ظل هذا التجاذب يبقى مستقبل الإستقرار في البلد مفتوحا على كل الإحتمالات، ففي ظل استمرار غموض موقف الرئيس الحالي من هذا الجدل، سوف تشهد الأيام المقبلة الهبوط في أتون الإحتجاجات والمواجهات بين مؤيدين والرافضين.

إن الإصرار على ترشح الرئيس لمأمورية ثالثة، سوف يرفع من حالة الإحباط الإجتماعي والسياسي التي تراكمت منذ 2008 بعد الإنقلاب على الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، ويرفع من حدة التوترات الإجتماعية التي باتت تتحين الفرص للصعود إلى السطح، هذا فضلا عن سياق إقليمي دولي ليس متحمسا لهكذا خطوة، من شأنها أن تضيف بؤرة توتر جديدة  إلى ما يعيشه العالم جميعا من توترات، فعلى الصعيد الإقليمي يظهر سلوك الإتحاد الإفريقي تجاه التجارب المماثلة سواء في بوروندي أو غيرها، صرامة في الموقف الرافض للإنقلابات على الدساتير، وبالتالي فليس من المنتظر مساندته لأي عمل من شأنه تغيير الدستور في موريتانيا بشكل يسمح للتشبث بالسلطة رغم المحظورات الدستورية.

إن حساسية الموقع الجغرافي لموريتانيا، وانفتاحها على منطقة الساحل الملتهبة، يجعل العالم ينظر إليها بعين الريبة والخشية من كل ما من شأنه أن يزعزع لاستقرار، ذلك أن الجماعات المسلحة المتربصة على الحدود إنما تتحين الفرص لخلق المزيد من القلاقل والبلابل في كل مجتمع لا ينعم بالاستقرار ومنشغلة قواه الأمنية والعسكرية بفض الاشتباكات السياسية.

أما السياق الدولي فعلى الرغم من النفاق في كل ما يتعلق بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلدان العالم الثالث، وتغريبها لأولوية الأمن على الحرية، فإنها لا ينتظر منها القبول المبدئي ما من شأنه الانقلاب على الدستور، الأمر الذي سوف يجعل البعض عرضة لجملة من العقوبات الاقتصادية والسياسية وهو ما لا يمكن أن تتحمله الظرفية التي تمر بها البلاد، والأزمات المتعددة الجوانب التي تشهدها، وفوق هذا كله، تواجه تلك الدعوات العديد من العقبات القانونية والسياسية في البلد، فمسألة إلغاء الدستور جملة تتطلب توافق سياسي عليها، الأمر  الذي لا يمكن الحصول عليه في ظل استمرار الجفاء بين الموالاة والمعارضة، وهو ما يحول دون خلق إطار للتلاقي بين مكونات الطيف السياسي، وبالتالي المحصلة النهائية هي المواجهة غير المحسوبة العواقب.

نقلا عن جريدة المشعل