ولى قصة مع مكناس..

ثلاثاء, 12/13/2016 - 19:38

قرأت مقال الاخت العزيزة والباحثة المتميزة الدكتورة تربه بنت عمار بعنوان ((قصتي مع مكناس)) فأثار فى ذهني، وبعث فى نفسي ذكريات جميلة لا تنسى عشتها فى مكناسة الزيتون خصوصا وفى المغرب عموما خلال مراحل دراسية متباينة وفى ظروف عمرية وزمانية مختلفة.

فقد درست المرحلة المتوسطة (الاعدادية ) فى ((المعهد الاسلامي الاصيل)) الذى تغير اسمه ـ إذ ذاك ـ الى ((ثانوية التعليم الاصيل)) التى تحول اسمها هي الاخرى إلى ((ثانوية الامام علي)) فقد زرتها ـ حفظا للعهد ـ خلال مرحلة الدراسات العليا فى جامعة مولاي اسماعيل فى ذات المدينة (2005 ـ 2007) والتى سأتحدث عنها لاحقا ان شاء الله بشرط أن ينال هذا الجزء رضا القارئ الكريم الذى ينبغى للكاتب أن يتغيا رضاه بعد رضا الله تعالى.

المرحلة الاولى التى سأمحض لها هذا المقال بدأت سنة 1976 وانتهت سنة 1979 ، أى ثلاث سنوات دراسية عشت خلالها مع إخوة أعزاء وأصدقاء أوفياء كان أغلبهم ينتمى إلى نفس المجموعة القبلية التى أنتسب إليها والى ذات المنطقة الجغرافية التى انتمى إليها ولكن علاقتنا البينية ـ عموما - كانت تطبعها الحميمية بغض النظر عن الانتماءات الضيقة والآنية من جهة ...

لقد بدأت دراستي من السنة الاولى وأذكر أنني كنت متميزا في مادة النحو التي درستها من قبل على والدي وعلى الاستاذ الفريد في زمانه ومكانه السادات بن حين رحم الله الجميع.

 2

لقد كانت أستاذتنا لمادة النحو خلال السنة الثانية تسمى ((لطيفة)) وكنت أجيبها – دوما- على الاسئلة التى تطرحها خلال الدرس وذات يوم ألقت سؤالا فلم يجبها أي من الطلاب بما في ذلك أنا - فاللهم لا فخرـ فنادتني : ((عبد الدايم)) فأجبتها ب((نعم)) ولكنني لم أجب عن السؤال فعلقت قائلة: (( الدائم هو الله)).

ومن الطريف ما حدث مع أحد الاساتذة ويدعى ((زين العابدين )) وكان أحد مدرسينا في السنة الثالثة أيضا وذات يوم كان الدرس حول قصيدة لأحد لشعراء المغاربة يشيد فيها بالثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي ويعبر عن تضامن المغاربة معها فيقول: وفي الجزائر شعب ثائر يعز علينا ان تضيع مكاسبه.

 ولكنني أنا وبعض زملائي الموريتانيين فهمنا كلمة ((يعز)) فهما خاطئا فانسحبنا من الفصل - احتجاجا ـ وحاول الاستاذ المسكين – عبثا ـ اقناعنا فلم يفلح.

ولقد تقدمت لنفس الاستاذ ب(( إنشاء)) كلفني بإعداده فعلق على خطي بقوله: إن كتابتي لا شرقية ولا غربية وقد كنت في مرحلة انتقالية محاولا تغيير خطي من النمط التقليدي الى النمط الحديث.

نحن وعيد العرش :

لم نكن نشارك – إطلاقا – في الاحتفال السنوي بعيد العرش رغم أن القائمين على المدرسة يسعون إلى ذلك ، وذات مرة استدرجت الادارة أحدنا فشارك بشكل فردي فتقدمنا باحتجاج شديد.

 

 

 3

اللهجة عبر عنه بعض مسؤولينا للمدير وفرضنا على زميلنا المسكين شبه حصار كان وقعه النفسي ممضا

ومن المفارقات

أننا شاركنا في إحدى المناسبات ـ لعلها عيد العرش – بالنشيد التالي - وهو لأستاذي السادات بن حين الذي سبق ذكره رحمه الله يقول :

نحن الحماة للوطن يحمى بنا من الدرن

من رامنا بوهن فقد هوى وقد وهن

لأننا كل على من رامنا يدا يدا

يا رائما ملكا له لا تطمعن لا تطمعن

إنا ليوث غابة ورثنا ذا أبا أبا

وادن منا لحربنا تجدها حربا مرة

شرط القتال دونما تبغي له من مورتن

يا سامعا قولي قولن نحن الحماة الوطن

وللقارئ الكريم أن يتمعن النص و((ينقح المناط)) كما يقول الاصوليون ويصدر حكمه

ولكن رغم كل ذلك فلم نتلق – يوما ـ من إدارة المدرسة وأساتذتها ولا من السلطات العمومية وعامة الناس إلا كل التقدير والاحترام والتبجيل.

 

 4

ألم نكن مدللين بغض النظر عن الأهداف والغايات، والشهادة لله ثم للتاريخ ؟

العطلة الصيفية الاولى والاعتصام في السفارة :

بعد نهاية السنة الدراسية الاولى سافر بعضنا إلى الوطن لقضاء العطلة الصيفية وغادر البعض الآخر إلى ليبيا أما الباقون فقد قضوا إجازتهم في المغرب وكنت من بينهم فأجرنا منزلا في حي ((يعقوب المنصور)) بالرباط وسجلنا في مركز لدراسة للغة الفرنسية وتكفلت الوكالة الموريتانمية المغربية للتعاون ـ الراعى الحصري لشؤوننا ـ بدفع رسومه ولكننا غدونا مأوى ومثابة للغادين والرائحين ـ حمدا لله ـ مما شكل ضغطا على الميزانية التي نفذت في حدود منتصف العطلة فما كان منا إلا أن قررنا الاعتصام داخل مبنى السفارة الموريتانية بالرباط متقدمين ببعض المطالب فمكثنا بها أياما لا أذكر عددها تحديدا . وبعد طول انتظار - والحالة تلك - هددنا بالتصعيد باحتجاز أعضاء البعثة الدبلوماسية ان لم تنفذ مطالبنا !

فحضرت فرقة من الدرك الملكي ورابطت أمام مدخل السفارة .. وكان من بين مطالبنا (( تعويض )) مادي عاجل لعله مربط الفرس والدافع الرئيسي للاعتصام أصلا ، كما طالبنا بتأمينات صحية ضمن المطالب البسيطة والمحدودة فى مجملها ...

وأخيرا ... بعثت لنا السفارة مفاوضا من العيار الثقيل تربطنا وإياه علاقة قبلية ونكن له الاحترام والتقدير رحمه الله رحمة واسعة.

 5

استمر التفاوض لبعض الوقت وتوصلنا لاتفاق كان من أهم بنوده إعطاء كل فرد منا مبلغا ماليا يساوى نفس المنحة التى تخصصها لنا الوكالة كل شهر إضافة الى القسم الداخلي طبعا وقد تغير اسم تلك الوكالة الى الوكالة المغربية للتعاون الدولي بعد انسحاب موريتانيا من الجزء الذى كانت تحتله من الصحراء الغربية ...

رحلة طلابية :

ذات يوم من أيام الاطلس المتوسط الشاتية قمنا برحلة قادتنا الى كل من إيفران وآزرو ، وهي مناطق تنحدر درجة حرارتها الى ما تحت

الصفر , وخلال تلك الرحلة توقفنا عند بعض المناطق السياحية فى ضواحى فاس ومن أهمها بركة مائية يعود منبعها الى عين معدنية جارية معروفة.

أما المشرف على الرحلة فقد كان أستاذ اسمه ( حشلاف ) وكان من وقت لآخر داخل الحافلة وخارجها يكرر أمامنا :

عندما يرقص على السلهام له يطير

سلهام من صوف عمامة من كتان

لازمة تافهة فى معناها ومبناها يرددها بشكل له إيقاع فيحاكيه الطلبة

أما نحن الموريتانيين فقد طلبوا منا المشاركة بتقديم نموذج من التراث الموريتاني فوقع الاختيار علي لأحكى إحدى القصائد الموريتانية الشهيرة وبعد انتهائي من إلقائها علق أحدهم قائلا : حكايتك جيدة ولكن تنقصك الموهبة .

 6

من أساتذتنا :

خلال السنة الاولى كان أستاذنا لمادة الادب يسمى ( القلعي ) درسنا قصيدة لأبى القاسم الشابي بعنوان (( أغانى الرعاة )) يقول فيها :

أقبل الصبح يغنى للحياة الناعسه والربا تحلم فى ظل الغصون المائسه

والصبا ترقص أوراق الزهور اليابسه وتهادى النور فى تلك الفجاج الدامسه

أقبل الصبح جميلا يملأ الافق بهاه فتمطى الزهروالطير وأمواج المياه

إلى أن يقول :

واتبعيني يا خرافي بين أسراب الطيور واملإى الوادي ثغاء ومراحا وحبور

واسمعى همس السواقى وانشقى عطر الزهور وانظرى الوادي يغشيه الظلام المستنير

وكان الاستاذ الوسيم ذو القامة الفارعة يتفاعل مع القصيدة أثناء حكايتها فيرددها بصوت جهوري آسر فكان ـ بحق - مثارا للاعجاب والتقدير.

فى السنة الثانية كان يدرسنا النحو والادب أستاذ لا أذكر اسمه ولكنه كان ذا خلق رفيع وذا طلعة بهية , ترتاح له النفس وتهفو اليه القلوب يحبنا نحن الموريتانيين ونحبه وكان له أخ ـ إذ ذاك ـ ضمن

 7

القوات المغربية المرابطة فى الشمال الموريتاني إبان حرب الصحراء

درسنا قصيدتين للمتنبئ إحداهما رائعته الشهيرة التى يعاتب بها سيف الدولة الحمداني يقول فى بدايتها :

واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالى عنده سقم

ما لي أكتم حبا قد برى جسدي وتدعى حب سيف الدولة الامم

الى أن يقول :

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم

شر البلاد مكان لا صديق به وشر ما يكسب الانسان ما يصم

أما القصيدة الاخرى فيهجو بها كافورا الاخشيدي, يقول فى بدايتها

:

عيد بأية حال عدت ياعيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد

أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيدا دونها بيد

ومنها :

جود الرجال من الايدى وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود

ومنها :

جوعان ياكل من زادى ويمسكني لكي يقال عظيم القدر مقصود

 

 8

وهي فى عمومها هجاء مقذع لا مزيد عليه وهذا النوع من النصوص لا ينبغى أن يدرس للطلاب عموما خاصة من هم فى سننا وقتئذ.

أما عن مادة الفقه فقد كان يدرسنا أستاذ اسمه ( حسين ) أو (حسينو ) لا أدرى أيهما , وكان كثيرا ما يكتب عللى السبورة العبارة التالية : (( أسئلة تريد الجواب عليها فاذا عجزت فأمامك الدفتر ))

ولكن هذا ربما يكون من باب المراجعة والمتابعة فحسب .

أما عن مادة الرياضيات ـ وما أدراك ما الرياضيات ـ فقد كان مدرسنا فى السنة الاولى أستاذ أردني فظ غليظ القلب , ينظر شزرا , يضرب الطلاب أحيانا وكنت من بين من تعرض لضربه المؤلم بعصى غليظة يسلطها عى ظاهر أصابع اليدين , ولم أكن مرتاحا له رغم أنه يتقن مادته ولكن ربما يعود القصور الى جدتها بالنسبة لي وإلى فظاظته طبعا.

أما فى السنة الثانية فقد كان يدرسنا ذات المادة أستاذ عراقي اسمه ( ساجى) كان قمة من حيث الخلق والخلق , ومن حيث إتقان مادته والقدرة على إيصالها والافاضة فى شرحها وقد تميزت معه وأحببته ، ولكن رغم تميزه على مختلف المستويات فقد أطلق عليه الطلاب لقب (( افاي ) ومعناها باللغة الانجليزية المجموعة الفارغة أو المجموعة الخالية لأنه كان يستخدم ذات المصطلح ، وفى تلك السنة كنت أتنافس مع أحد زملائي الموريتانيين على المرتبة الاولى فى الفصل ولكنه تبوأها فى نهاية السنة الدراسية فى حين أحرزت لمرتبة الثانية بعده.

قصة القطار :

 9

ذات مرة سافرت برفقة اثنين من الاخوة الزملاء لقضاء إجازة نصف السنة فى الجنوب فاستقلينا القطار من الدار البيضاء الى مراكش وجلسنا ثلاثتنا فى غرفة صغيرة وبمعيتنا رجل يرتدى الزي العسكري وفى إحدى محطات القطار القريبة من الدار البيضاء تقاجأنا بمجموعة من الشباب المنحر فين أخلاقيا تملأ علينا الغرفة , تفوح من أفواههم رائحة الخمر وربما يتعاطون المخدرات وبمعية أحدهم آلة طرب بدأ يعزفها فطفقوا يغنون ويمرحون فانحبس الاكسجين أو كاد فما كان منا إلا أن طلبنا منهم جلوس بعضهم فى غرفة أخرى ( إن وجدت ) لأن هذه لا تتسع لنا جيعا وكنت أحد القوم فى التفاوض والحوار معهم فاحتد النقاش ووصل إلى مرحلة التهديد من الطرفين فما كان من أحد مرافقي إلا أن وقف بشكل فجائي ومباغت وسريع واستدار فى حركة سريعة وصرخ بأعلى صوته صرخة مدوية مقلدا تمام التقليد بطل الكاراتيه الصيني المعروف (( ابريسلى )) وكنا نشاهد أفلامه أحيانا فى السينما وكان صديقي يقوم ببعض التمارين على هذه الرياضة داخل ساحة المدرسة فى بعض الاحيان فما كان من الشباب الجانحين , وإن شئت قلت اللصوص المحترفين إلا أن انسحبوا بشكل كامل ونهائي وسريع ، أما العسكري فلا أذكر هل بقي معنا أم غادر هو الآخر مع المنسحبين.

وقد سمعت أحدهم يقول إن فى تلك الغرفة موريتاني ربما يحمل الحزام الاسود ، ولكنه فى الحقيقة لا يحمل حتى الحزام الابيض.

وقبل أن نصل إلى وجهتنا فى وقت متأخر من الليل جاءنا بعضهم معتذرين معبرين عن أسفهم لما قد بدر منهم.

روايات قرأتها وقصيدة أحببتها :

 10

خلال تلك السنوات الثلاث قرأت جل ـ ان لم يكن كل ـ روايات الكاتب والمؤرخ اللبناني جرجى زيدان حول تاريخ الاسلام , تلك الروايات الآسرة بأسلوبها وطريقة سردها دون أن أعى أو أدرك أن الرجل مسيحي وغير أمين على تقديم التاريخ الاسلامي بشكل صحيح ولكن دافعى لقراءتها , وأنا فى تلك المرحلة العمرية والدراسية المبكرة ، ربما يكون التسلية والمتعة فحسب.

ومن تلك الروايات التى قرأتها : الامين والمأمون , العباسة أخت الرشيد ، فتح الاندلس ، أحمد بن طولون ، الحجاج بن يوسف ، صلاح الدين الايوبي ، عروس فرغانه ، أسير المتمهدي ، طارق بن زياد ، الانقلاب العثماني وغيرها .

كنت مولعا بقصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الاندلس و التي يقول في بدايتها :

لكل شيء اذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش انسان

هي الايام كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان

فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبة أم أين جيان

وأين قرطبة دار العلوم فكم من عالم قد سمى له فيها شان

وأين حمص وما تحويه من نزه ونهـرها العذب فياض وملآن

إلى أن يقول :

أعندكم نبأ من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان

 11

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان

ماذا التقاطع في الاسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان

على نفوس أبيات لها همم أماعلى الخير أنصار وأعوان

لقد كانت – بحق- سنوات مليئة بالاوقات الممتعة و التجارب الغنية , مفعمة بالذكريات الجميلة والدروس والعبر المفيدة.

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الدراسات العليا في جامعة مولاي اسماعيل بحي الزيتون في عاصة مولاي اسماعيل ذاتها , ولكنها كانت في زمن آخر وبنكهة مختلفة وهي أيضا ممتعة وجميلة.

وسأفرد لها – كما أسلفت - مقالا آخر في وقت لاحق إن شاء الله.

 

مولاي ولد عبد الدائم .