ضد "الخوف الكبير" / حماه الله ولد السالم

جمعة, 01/27/2017 - 08:23

للخوف سلطان عظيم على النفس والبدن، يجعلهما في وضع شلل كلي أو جزئي، ويغطي العقل بحجاب غليظ من الوهم والضياع والوهن ويمنع كل فعل خلاق.

تقول الحكمة السرية القديمة أن أخطر سلاح بشري هو الخوف، الذي يقتل النفس البشرية ويحولها إلى أداة طيّعة عمياء، جسد حي لا يفكر ولا يبدع، لا يعرف معنى للماضي ولا للحاضر ولا المستقبل،مغموس في حمإ اللحظة البوهيمية أو البائسة.

يبدأ الشعور بالخوف صغيرا ثم يصبح كبيرا وقد يصبح طاغيا ولازما، يتطور تماما كالشعور بالذنب من التفريط في رزق الفرد والأسرة، فيتخلّى الفرد المتعلّم عن المطالبة بحقه، بعد أن تخلّى عن نقد السلطة، أي عن الاهتمام بالشأن العام، واقتصر على شأنه الخاص الذي يتخلى عنه شيئا فشيئا لصالح السلطة، وقد يصبح هو نفسه من أدواتها القذرة، فيتخلّى عن آخر معقل للنور في جسده: ضميره الحي.

السبب بالطبع هو سريان سم الخوف في نفس هذا المواطن البائس، ما يضعف من مناعته ومقاومته، ويجعله فريسة سهلة للقمع الرمزي والمادي، ويحوله إلى كائن ضعيف أمام المال والمتعة وحتى من أجل لا شيئ أحيانا.

تحرصُ السُّلط المستبدة على تعزيز الشعور العام بالخوف من كل شيئ، من المجتمع نفسه، ما يكرس خوف كل طائفة وقبيلة وجهة من كل طائفة وقبيلة وجهة أخرى، ثم يتحول الخوف إلى كراهية عميقة، تجعل الجسم الاجتماعي قابلا للكسر والتركيع، وقبول كل الخيارات، خشية طغيان الطرف الآخر وانتقامه، يسود الجميع خوف أصم ليس فيه حس ولا معنى، فتموت روح المجتمع ويصبح مجموعة سكانية يشار إليها بالأرقام، تماما كالشوارع والساعات، ونزلاء السجن، ما يلغى هويتها الإنسانية.

وهو سلوك سلطوي إجرامي لا يقتصر على الحكومات المحلية بل يبدو امتدادا لعمل منظم تصنعه "الحكومة العالمية"، قيد التشكل، أو في طريق اكتمال مشروعها للسيطرة على البشرية وتدجينها وإلغاء الأديان والحدود، وتحويل الإنسان إلى فرد طيع وتابع، لا يؤمن بشيئ إلا المتعة والقوت ولا ينتمي إلى أسرة أو جماعة.

مناخ الرعب الذي وصفته رواية (1984) المعروفة، ماثل في كل البلدان، وهو قد التشكل في كل البلدان، حسب ظروف كل بلد، حيث يتم تدجين "النخبة" و ومحاصرة العقل والمنطق، وتشويه لقيم أو إفراغها من مضمونها، والتلاعب بكل شيئ حتى باللغة ذاتها أداة التواصل والخطاب والعقل، وصنع لغة ميتة لا تعبر عن شيئ، لكنها قابلة لوصف واقع افتراضي مصنوع كاذب ومخادع يجعل المواطنين في غربة عن الحقيقة والواقع.

والمجتمعات التي يسيطر عليها سلطان الخوف، تسودها حالة من التشبث بالماضي، ليس بوصفه إرثا أصيلا أو عريقا، أو مصدرا تستمد منه القيم والأخلاق، بل لأنه يشكل الخشبة التي يتشبث بها الغريق حتى لو كانت بلا فائدة، ولذلك تنتشر ظاهرة التخندق المذهبي والطائفي والقبلي بين الشعوب التي سيطر عليها سلطان الخوف وأفقدها "البوصلة" وجعلها ضائعة في نهر الزمان السرمدي (بلا وعي بالتاريخ) و تائهة في صحراء الوهم، ( لا وجهة محددة).

يخضع الموريتانيون لسلطان الخوف المصنوع هذا، وفق طريقة خاصة، تلائم وضعهم الاجتماعي والثقافي والنفسي، جعلتهم يتخلون تدريجيا عن حقهم في الحياة الكريمة.

لا جدال في أن للموريتانيين الحق الكامل في أن يحلموا بمستقبل أفضل ومن حقهم أيضا أن يطالبوا بنظام أكثر كفاءة. لكنهم مع ذلك لا يبذلون أي جهد في سبيل نيل حقوقهم ومطالبهم، بل يفيئون إلى ظلال الكسل والهوان، ويقنعون باليسير حتى ولو كان بائسا ورديئا.

هناك خوف كبير يسكن قلوب الموريتانيين، جميعا، على اختلاف مشاربهم السياسية والفكرية والاجتماعية، هو خوف من المستقبل، يجعلهم ينفرون من "العدل" ويخشون الإصلاح، ويعارضون التغيير، بل يعتبرون أية دعوة إلى تلك المثل العليا نذير شر مستطير تفتح عليهم أبواب جهنم!

يقينا للتاريخ دوره في تلك الحالة الغريزية، ولذلك لن يستطيع أي كان مهما كانت حكمته ونضاله أن يغير وضعا بنيويا مستحكما منذ قرون.

لكن يمكن فهم تلك الظاهرة وتحليل جذورها العميقة والظرفية، وتلمس جوانبها المتغيرة القابلة للكسر والتعديل.

لقد خضع أهل هذه البلاد لظروف قاسية وعنيفة ومميتة، صنعها القحط والجوع والغزو والوباء، وهي دورة عشْرية، استمرت أزيد من ألف سنة، رسخت في نفوسهم الخوف من الغد والخشية من القادم والرعب من المجهول.

ولذلك ما يزال الموريتانيون يخشون الغد، وليس المستقبل ، لأن هذا الأخير ليس في ثقافتهم مطلقا، وقد حلّ محله انتظار للنهاية كلما دهمتهم خطوب ومحن وكوارث تُجاوز صبرهم وتفسيرهم.

ولذلك فإن الزمان يذوب في الصحراء، حيث لا معنى له، لأن الزمان الطبيعي لا يتحول إلى وجود خارجي عن الروح والنفس، ويتم تعقّله، وإدراك تميزه عن النفس والبدن، إلا بالتدخل فيه و "تعديله"، بصنع الأحداث والتأريخ لها، والوعي بها، ما يمكّن العقل من احتواء السيرورة التاريخية، والوعي بها والتمييز بين مساراتها والإفادة من التجارب في كل مرحلة. ولذلك فإن الشعب الذي لا يمتلك ذاكرة خصيبة، يعجز عن الإفادة من تجارب التاريخ، ما يجعله فريسة سهلة للسقوط في الخيارات القلقة.

الخيارات القلقة

كلما ضمُرت الممارسات العقلانية برزت الخيارات القلقة، وحيثما تراجع دور العقل والمنطق والمسؤولية، طغى تأثير البدائية والأنانية.

ولذلك بات الموريتانيون يرْضون باليسير، ليس من باب القناعة، بل خوفا مما يأتي مع القادم المجهول، ويحرصون على التشبّث بما يعرفون حتى ولو كان خاطئا، لأنهم لا يجدون عنه بديلا، وهم أيضا يتعلّقون بما يألفون بحكم (سُلْطان العادة) وهو شديد الوقْع على النفس والبدن.

المجتمعات كلها تخشى التغيير والتحول، لأنها لا تعرف ما سيؤدي إليه، وهي نزعة إنسانية غلاّبة، لكنها تتفاوت حسب كل قوم وأرض وشعب ووطن.

بعد الأحداث المريرة التي أعقبت الثورة المصرية، كتب أحد الصحفيين أنه يخشى من ذلك اليوم الذي تنْتظم فيه جنازة شعبية لمبارك!

ولذلك يتعلق كل شعب بأمْسهِ القريب، حتى ولو كان الوضع فيه بائسا والحاكم ظالما، لأنه يجده أحسن من واقعه المرّ الذي أسْلمتْهُ إليه، حسب اعتقاده، يد الثورة والتغيير والمطالب العادلة، رغم علمه علم اليقين، أن كل نظام هو من يصنع الواقع الذي يوجد بعد رحيله، لأنه إما صنع مقدّمات ذلك الواقع السيئ أو خلق وضعا مخادعا مؤقتا، حيث جعل "الحلول والممكنات" في بئر عميق وطمره بالرمال أو بالإسمنت المسلح، ثم تركه لينفجر بعد رحيله، فيبدأ الناس يلعنون أيام الثورات التي قامت من أجل تخليصهم من أنظمة البؤس والرداءة، والتي تصنع دواما "أمْنا" خادعا، بالرشوة وشراء الذمم و طمر الحقائق وتأجيل الحلول، فيتجمد الزمن السياسي والاجتماعي، فيظن المواطنون أنهم في وضع طبيعي سلمي، لكنهم لا يدركون أنهم إنما يعيشون فوق فوّهة بركان يستمد نيرانه من بئر عميقة من الفساد والظلم والجهل والخداع.

ولذلك تصبح فترات ما بعد سقوط الدكتاتورية أصعب مراحل تاريخ المجتمعات والدول، لأنها تجعل الحكّام الجدد في مواجهة كل الكوارث التي تسبّب فيها من سبقهم من الظلمة والمستبدين لأنهم صنّاعها الحقيقيون، فيصبحون أمام مسؤولية مزدوجة وقاتلة: تلبية مستحيلة للمطالب الشعبية التي سيعجزون عن الوفاء بها لأنه لم يتبق شيئ بعد الأنظمة المستبدة التي أكلت ما طالته يدها أو مارست سياسة الأرض المحروقة لتثبيت نفسها وتلبية المطالب الظرفية مهما كانت عواقبها على اقتصاد الدولة فيما يعرف بسياسة "السحب على الموارد"، وأيضا لتوريط من يأتي خلفها، أو يكون الحل لدى الثائرين هو أن يتركوا المجتمع أمام الواقع المخيف وهو إما خيار العودة إلى الدكتاتورية أو تسليم الدولة إلى المجهول!

ولذلك تجد قوى التغيير والإصلاح نفسها عاجزة عن تلبية مطالب المواطنين أو حتى عن التوافق بينها على أجندة ظرفية للإنقاذ، وكان بمكْنتها التوافق قبل الثورة وفي ظل صراعها مع النظام الاستبدادي، والاتفاق على أجندة المرحلة الانتقالية، والتوافق على الخيارات الوطنية الكبرى بل وضع قواعد "الإجماع الوطني"، ما يجعلها في مأمن من الانشقاق أو الصراع، بعد نجاح الثورة أو التغيير.

ولذلك دلّت الخبرة التاريخية على أن العودة إلى الدكتاتورية تتم أحيانا بعد فشل الثورات في تلبية مطالب الناس، وهو بالطبع فشل مصطنع بل وغير ممكن، لأن التاريخ لا يتراجع إلى الوراء، ولأن الثورات ستكون نجحت في مهمتها الرئيسة وهي إزالة حجاب "الهيبة" عن النظام القمعي، وبذلك يخرج الناس من سجنهم الحقيقي: "الخوف الكبير" ويكتشف النظام، بعد فوات الأوان، أنه كان نظاما أعمى، لا يبصر شيئا من واقع شعبه.

نظام أعمى ( système aveugle )

لا يمتلك النظام الحالي، تماما كسلفه نظام ولد الطايع، أي رؤية واضحة للأمور، ولذلك يتصرف وفق "الحالة المزاجية" بالإجراءات الظرفية والعملية، وليس انطلاقا من رؤية بعيدة لمسارات الأمور ومآلاتها، إنها النظرة الأمنية الضيقة والمسلكيّات العسكرية المتصلّبة، ما يعوقه عن رؤية الواقع وما فيه من انعطاف ومرونة، ويجعل السياسة الرسمية مجرد ترقيع وترميم مستمر لوضع مهترئ أو منْتهٍ، أو حتى عرضا لـ"واقع افتراضي" يجري تعديله وصنعه، ثم ينكشف عن لا شيئ تماما كالصورة الهولوغرافية.

ولذلك ليس من المستغرب أن حرص النظام على أفراغ المؤسسات التعليمية والثقافية من كل مضمون ومنع أي إصلاح جدي داخلها، أما بناء القرار الوطني على أسلس علمي وعقلاني، فهو آخر ما يفكر مثل هكذا نظام يفضل دفن الرأس في الرمال و الخضوع لنداء الغريزة وليس لخطاب المنطق، ما يجعل التصرف الرسمي ينقصه "الحس السليم" (Le bon snse) والذي يؤدي فقْده إلى التصرف الحرْفي ما يفقد صاحبه الرؤية الشاملة للأمور، لكنه محظوظ برعيّة لا ينقصها الخنوع والقبول بكل شيئ.

سلطة محظوظة بشعبها

يحكم النظام الموريتاني شعبا ميّالا إلى التهدئة، يخشى التغيير ويخاف الثورة، ويتعلق بالمألوف والتقليد، تحْكمه عقلية منافسةُ "النظير": ابن العم، أو من في حُكْمه من الخصوم، ما يجعل النظام يمسك بزمام الأمور بسهولة ويسر، وليس لأنه يمتلك حنكة سياسية أو كفاءة من أي نوع.

هذه العقلية البائسة والغريبة، بارزة لا تخطئها العين، جعلت "نخبة" البلد من المتعلمين والسياسيين وحتى أهل البصائر، متلهفين لأي منصب كان، ليس لحاجة ذاتية دواما، بقدر ما هو سعي لنيل المكانة والوجاهة الاجتماعية التي صنعها النظام على عينه وجعل المنصب مصدرها أمام العامة، لكن الدافع الحقيقي لؤلئك هو الحصول على موقع يتم فيه منافسة "ابن العم" الرمزي والحقيقي، أو تركيعه وإذلاله إن أمكن، وفي حال ما إذا كان هذا الخصم عصيا على التركيع والإذلال أو ينظر بازدراء لتلك المناصب أو لا يهتم باللعبة من أساسها، يتم إطلاق يد الدعاية القذرة لتشويه صورته لدى المجتمع، وفي حال لم ينجح ذلك الفعل الدنيئ يتم العمل على حصاره بكل الوسائل.

النظام يغذي الخلافات بين أبناء الشعب ويذْكي نار العداوة بين الفرقاء الاجتماعيين وحتى السياسيين، عملا بسياسة ((فرّقْ تسُدْ)) السيئة، وتمزيقا لوحدة المجتمع خشية اتحاده وتضامنه في وجه آلة الفساد والاستبداد.

يبدأ مسار تنفيذ مشروع "الخوف الكبير"، عبر عسْكرة الدولة، بحسبانه السبيل الأقرب إلى التحكم في مفاصل الدولة التي تُحْكم قبضتها على المجتمع نفسه، بالتحكم في أرزاق الناس ومصادر عيشهم ثم لا ينتهي إلا بمراقبة حياتهم حتى داخل البيوت عبر الوسائل الحديثة.

وليس غريبا في بلد ثقافته شفوية، أن تختفي الصحف المطبوعة تقريبا، لتحل مكانها منشورات رقمية يسهل إلغاؤها أو تحييدها، وهي أيضا قناة سالكة لبث الشائعات المغرضة التي تمارس تخريبا ممنهجا للعقول والنفوس، وتزيد المجتمع حيرة وضياعا، وخضوعا للأجهزة التسلطية.

ما يمنع تشكل الرأي العام، ويجعل المجتمع مجرد تشكيلات سكانية لا رابط بينها، إلا العلاقات القرابية التي تنفصم عراها شيئا فشيئا تحت وطأة تحديث مادي استهلاكي متسارع ينشر الرذيلة والجريمة.

ولذلك أصبح المجتمع الموريتاني حالة سائلة تتشكل وفق أي أطر وصوى مصطنعة أو قائمة، ويتخذ مساره وفق أية أجندة رسمية مؤقتة أو دائمة. لقد فقد هذا المجتمع مناعته وسقط فريسة الخوف من مجرد التفكير في واقع أفضل، وهو شعور مرعب يتضخم كلما نقلت إليه الفضائيات مشاهد للأحداث العنيفة، العادية أو لها أسبابها الموضوعية، التي تجري حتى في أكثر العواصم الغربية حرية وأمنا. حيث يتم في البلدان المتقدمة التحكّم في الدولة والمجتمع من دون المساس العنيف بجوهر الحرية والحقوق، ولذلك يظل هنالك توازن دقيق بين سلطة الحكومة والرأي العام، بين قوة القانون وقانون الحرية، ما يجعل المظاهرات العمّالية والسياسية والخلافات الحزبية والشعبية، مظهرا صحيا وتعبيرا عن حيوية المجتمع وقدرته على تصحيح أخطائه. وقد شاهد العالم (سنة 2011) مظاهرات شبابية في قلب لندن، تم فيها إحراق المتاجر الكبرى، ورغم ذلك لم تعلن حالة حظر التجوال ولم يتحدث الإعلام عن "كارثة قومية" أو انهيار الدولة، لأن الجسم الوطني يمتلك حصانة تجاه هذه الأحداث، ويرفض الرأي العام أي مساس بالحريات بدعوى "إنقاذ الأمة" على الطريقة العربية المعروفة، ولذلك رفض البرلمان الفرنسي طلب الرئيس تمديد "حالِ الطوارئ"، وهو دليل حي على وعي الفرنسيين بقدسية حريتهم وخوفهم عليها.

يخطئ تماما من يظن أنّ المجتمعات القديمة كانت أسوء من نظيرتها الحالية، بل العكس هو الصحيح، لأن النظم الحديثة باتت أقدر على التحكم في مواطنيها من ذي قبل، بوسائل تقنية وإدارية معقدة وفاعلة، ولذلك تزداد مساحة القمع رغم اتساع حدود الحرية، أما المجتمعات القديمة فقد كانت تستند إلى أعراف وحدود للعلاقة بين الحاكم والمحكوم مهما كانت درجة الطغيان لدى الملوك والأمراء، وهو حال السلط في المجتمعات الإسلامية بعد الحقبة الراشدة، إذ كانت الدولة السلطانية من بني أمية والعباسيين إلى المماليك والعثمانيين تحكم بشرع الله، جزئيا أو كليا، وتراعي الحد الأدنى للمشورة وتنظم حملات الجهاد ضد العدو وتحمي الثغور وتكرم العلماء وترعى للمؤسسات الدينية والحرفية حرمتها واستقلالها. ولم تكن تلك السلط الإسلامية، رغم استبدادها، تشبه قليلا أو كثيرا السلط القائمة اليوم في ظل الحكم الجبري والتي تقوم بإذلال المواطن و انتهاك حرمته وكرامته وتصادر إرادة أمة بأسرها تحت سمع وبصر العالم.

عقلية الخصم ـ الند هو ابن العم، الواقعي أو الرمزي، هي التي تحكم عقلية الموريتانيين، ما يجعلهم ينفرون من التضحية لأجل أية مصلحة عامة، لأنها ببساطة لا تعينهم، أو هي من مسؤولية الجميع: بني العمومة، المتنافسين، ولن ينتفض فرد من شعب كسول، من أجل خصم كسول آخر، لا يعنيه في نهاية المطاف، أو هو خصمه "التاريخي" وليس من المنطقي مد يد العون له ليصبح في وضع أفضل، ولذلك تظل الحال على ما هو عليه: مجتمع من الكسالى الذين يتنافسون من أجل لا شيئ، لا أكثر ولا أقل.

النظام الحالي، مثل الذي سبقه، يعرف تلك الحقيقة تماما، بل ويتمثّلها هو ذاته في ممارسته للسلطة، التي هي غنيمة شخصية حصل عليها بالحظ أو بالغلبة ولن يسلمها لابن العم الرمزي أو الفعلي، بل سيفيد منها قدر المستطاع ، لأن الخصم ـ ابن العم، سيفعل الأمر ذاته إن اقتضى الحال، ولذلك فهي دولة بين بني العمومة الرمزيين والفعليين.

ولذلك يبدو أي نموذج تفسيري في علم السياسة عاجزا عن فهم منطق السلطة في هذه البلاد، لأنه ليس نسقا عقلانيا يخضع لتأثير العامل الخارجي (القوة والاقتصاد) والعامل الداخلي (الثقافة والمجتمع)، بل هو دورة عبثية من التنافس القبلي والأسري يتجدد مع انطلاق كل رصاصة أو تنافس سياسوي هو مجرد حقل مغلق تُسْتدعى فيه الأحقاد القديمة والتنافسات التقليدية الهدامة.

ويزداد الأمر قتامة في ظل أزمة الحكم الذي جعلت الحاكم الفرد يختزل الدولة في السلطة ويصادر المجال العام، السياسي والفكري والرمزي، ما جعل السياسة بلا معنى والتفكير سلوكا عبثيا. أما المواطنون فهم في سجن كبير اسمه الخوف من الدولة أن تقطع أرزاقهم والخوف من المستقبل أن يأتي بالأسوء؟ إنه الخوف الكبير الذي جعلهم يخشون التغيير ويرفضون الثورة ولا يبالون بالإصلاح، شعور عدمي يعزّزه البحث اليومي عن القوت والشعور الملازم بالإحباط من كل شيئ.

بالدرجة التي يحطم بها النظام الاستبدادي قواعد المنطق والعقل والفطرة، بقدر ما ينتج نقيضها من العنف والانتقام والوحشية، ما سيجعله ذات يوم فريسة سهلة لتلك الوحوش التي صنعها بيديه. ولعل هذا من العدل الخفي.

لله الأمر من قبل ومن بعد