بوادر انسحاب وشيك للقوات الفرنسية من مالى

سبت, 07/01/2017 - 13:35

ليس من الوارد تتبع ما يكتبه الآخرون خصوصا في مجال "وجهات النظر" أو "الآراء الفكرية" فحقهم أن يكتبوا ويعبروا، والساحة الفكرية والثقافية لا تنمو ولا تتجدد إلا بتنوع الآراء وتعددها وتعارضها، ذلك أصل ـ لا ينبغي التردد في التشبث به ـ والحال والسياق والظروف لا تساعد غيره، وحجب آراء الناس أو التضايق منها سلوك مذموم فكراً متعذر واقعاً ..

 

ولكن حق التعليق والاستدارك والملاحظة مضمون ومطلوب، يحيي ويجود ويوسع المدارك، وأبسط  ما فيه أنه يكمل الصورة..

 

ومنذ فترة أقرأ بعض ما يكتبه د. السيد ولد اباه ـ وهو ذو اطلاع واسع في مجاله ـ وبدا لي منذ بعض الوقت قد زاد فيما اعتبرته تحاملاً لا ينسجم مع المسطرة التأويلية والنسق التحليلي اللذين يمليهما الفضاء الفلسفي الذي منه يمتاح الرجل..

 

للدكتور السيد ولد اباه  أن يعبر عن مواقفه من الجاريات والمستجدات وله أن يفرح لهذا الموقف أو التطور ويأسف لآخر وربما يأنف منه أو عليه يعترض، له أن يغرد مثلا: "محمد بن سلمان أظهر حساً سياسياً رفيعا ومؤهلات قيادية بارزة ..." أو: "تعيين محمد بن سلمان ولي عهد خطوة هامة في مسار الدولة السعودية الحديثة"، مع أنه لا يتبادر  إلى الأذهان أثر هذا التعيين على أوضاع المملكة على النحو الذي يصوره بعض الليبراليين ـ عفا الله عنهم ـ فعندما يكون طريق الليبرالية الملكية اللادستورية ومعبرها أكثر الأنظمة عتاقة فالأمر يحتاج شرحا وتفسيرا، وله أن يبالغ نهاية شهر مايو 2017 (مقال في الاتحاد) أي قبل أزمة الخليج الأخيرة ويشير إشارة تصريح ـ و معه آخرون كتبوا ما كتب وعبروا مثل تعبيره وكان يتحدث عن حال الأفكار التنويرية ـ: "التي لا تزال ضعيفة التأثير في الساحة الإسلامية نتيجة لقبضة دعاة التطرف والفتنة على المشهد مدعومين بماكينات إعلامية قوية وبدول راعية شاذة عن الإجماع الإقليمي القائم" ولا يخامر أحدا شك في أن المقصود هنا هو "الجزيرة" و"دولة قطر"، بل له أن يصف قمة ترامب "القمة الموسعة الناجحة غير المسبوقة التي التأمت في الرياض" ..  كل هذا و غيره له حتى ولو حمل روحا تحريضية واصطفافاً حديا زائداً لا يليق بالمسؤولين من أهل السياسة فأحرى سدنة الفكر والقلم!

 

لكن الذي استفزني ودفعني إلى كتابة هذه الملاحظات والتعليقات هو مقالات د. السيد في جريدة "الاتحاد" الإماراتية وأهمها هنا المقالان المنشوران في 19/06 و 28/06 2017 الأول بعنوان: (التطرف ومستقبل الدولة العربية)، والثاني بعنوان: (اللحظة الليبرالية العربية)، قرأت الأول في وقته وهممت أن أعلق لأن في الأمر تحاملا لا يخفى! ثم انتظرت فجاء الثاني وتحول التحامل تحريضا وتنظيرا للإقصاء فقررت أن أفعل لأن للرأي الآخر حقا يلزم القيام به والالتباس واللبس الحاصلان فيما قرأت يفرضان السعي لرفعهما والرد  عليهما وأرجو أن يكون ذلك بموضوعية شكلا ومضموناً.

 

 

كتب د. السيد ولد اباه في مقاله 19/06/2017: "إن الانهيار الذي عرفته بلدان المنطقة في السنوات الأخيرة كان نتاج حركة مزدوجة: إيديولوجيا راديكالية لا يمكن أن تتلاءم مع منطق الهندسة السياسية الحديثة وتنظيمات مقاتلة تستخدم العنف الوحشي أداة للفعل السياسي والسلطة، والعلاقة بين طرفي الحركية جلية للعيان"، يقوم هذا الحديث الخطير على اتهام صريح بتلاقي جهتين تمايزتا وتدابرتا بل وتقاتلتا، فلا أشد على  جماعات العنف والغلو والإرهاب من التيارات الوسطية المسماة عند البعض تيارات الإسلام السياسي ـ ولست حساساً من هذه التسمية بالمناسبة ـ، ولا أشد على الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية التي يحافظ د.السيد على نعتها بالتطرف والراديكالية من هذه الجماعات العنيفة، ثم ما هي هذه الهندسة السياسية الحديثة التي لا تتلاءم معها تيارات فكرية سياسية مدنية التكوين، إنتاجها النظري وممارستها العملية ـ رغم كل شيء ـ تؤكد تطورها وتجددها وقابليتها للاستيعاب الحضاري حتى بدعها وفسقها وأحيانا كفرها من يعيشون في ظل رعاية وتوجيه تحالف الإجماع الإقليمي القائم! ثم يتلاءم معها أصحاب الأنظمة العتيقة المؤسسة على البيعة القسرية والنظام الأبوي، ثم يجزم د. السيد قائلا: "الإيديولوجيا المتطرفة لا تعترف بفكرة الدولة الوطنية ولا بضوابط البناء السياسي التعددي في المجتمع، وهي قادرة على استغلال قنوات التمثيل والانتخاب الديمقراطي لافتكاك السلطة (كما حدث في بعض بلدان الربيع العربي) مما يفسر عمق مأزق التحول الديمقراطي في العالم العربي" أي مصادرة هنا وعبارات "الاستغلال" و"الافتكاك" تعبر عن ضجر زائد من اختيارات شهد الجميع أنه لم تكن للقوة ولا للنفوذ دور فيها، والإشارة إلى دول الربيع العربي تنصرف حصرا إلى مصر وتونس، وفي الأولى انتصر الإسلاميون في انتخابات أشرف عليها المجلس العسكري وكانت قوة الدولة العميقة ضدهم بالكامل فأين الافتكاك؟

 

أما في تونس فقد نجح إسلاميو النهضة في انتخابات أشرفت عليها حكومة السبسي الأولى فكيف يفتك مهجرون عادوا للتو وسجناء خرجوا مع الثورة  السلطة من يد القوى الأخرى التي وجدت من الدعم كثيره وسخيه؟! مشكلة الإسلاميين الديمقراطيين مع نوعين من الناس: سلفيون متطرفون يكفرون الديمقراطية و من يتعاطاها و يعمل في سقفها و يرضى بمقتضاها، وليبراليون يريدون ديمقراطية على المقاس مضمونة النتائج ويجزمون أن الإسلاميين والديمقراطية ثنائية غير قابلة للتوفيق، وقد صدق الأخ د. محمد ولد المختار الشنقيطي حين اعتبر أن السلفيين والليبراليين (أو العلمانيين) مختلفون في المقدمات متفقون في النتائج، واعتبر أن السلفيين يرون الحرية نقيضا للشريعة وأن العلمانيين (أو الليبراليين) يرون الشريعة نقيضاً للحرية، أما مقال د. السيد المنشور يوم 28/06/2017 في جريدة الاتحاد الإماراتية طبعا فقد أبعد فيه النجعة، يكرر فيه ما قاله في سابقه وهذه المرة بدل "الافتكاك" يستعمل مصطلح "الاستيلاء"! وهي مصطلحات في الحقيقة لا تنتمي إلى فضاء المجال المتحدث عنه: (السياسة والربيع والانتخابات)، فهي أقرب إلى فضاء آخر فيه: عسكري يستولي أو أمير يفتك! وفي الحالتين لا اعتبار للإرادة الشعبية.
 

يقول السيد : "فأفضت التحولات المفاجئة إلى تقويض مقومات الاستقرار والأمن في هذه البلدان في الوقت الذي أدت طبيعة الأوضاع الانتقالية السريعة إلى إجهاض المسار الليبرالي باستيلاء جماعات الإسلام السياسي على السلطة وما تلا ذلك من تدمير شامل للهياكل المؤسسية للدولة ثم لبنية الدولة ذاتها".

 

من دمر هذه الدول ودمر هياكلها وهدد وحدتها ويباشر فصل أجزاء منها، أنا من المدركين لأخطاء بعض الإسلاميين في مسار "الربيع العربي" وأدرك أن بعضهم لم يقدر حال بلده والسياق من حوله في الوقت المناسب ولكن الظلم عينه تحميلهم ما قام به تصريحا وفي وضح النهار غيرهم، لقد دمر هذه البلدان الانقلاب العسكري على اختيار الناس الذي حول أرض الكنانة ثكنة عسكرية، سجن وقتل وسحل وشرد الآلاف، خرب الاقتصاد وباع الأرض واستهدف الجميع (ألا تجدون العبرة في مواقف البرادعي منه وأخيرا صباحي وعنان وعمرو موسى..)، لقد دمر هذه البلدان تحالف الثورة المضادة الذي اجتمع فيه بقايا السوء من أنظمة الاستبداد والمهووسون من حرية الشعوب من دول الإقليم والقابلون من ذوي السياسة والرأي أن يبرروا ويشرعوا ويسوغوا...

 

من دمر سوريا: النظام وحلفاؤه وداعش ووحشيتها فأين الذين تشير إليهم وأين دورهم؟ من دمر ليبيا؟  جماعات التطرف والنزق وهي هنا أكثر للأسف، وقوات حفتر المدعومة والممولة من الإمارات، من دمر اليمن؟ إنه صالح وانقلابيو الحوثي، إنه من يحارب الحوثي ويدعم حلفاءه ويبذل كل جهد لفصل جنوب اليمن عن شمالها ويشرف على السجون السرية هنا وهناك.. إنها الإمارات، مَنْ أفشل محاولات جر تونس إلى مصير مظلم وانهيار محقق؟ الدور الأكبر كان لأصحاب الإسلام السياسي.. كان للإسلاميين الديمقراطيين.. كان للنهضة وزعيمها الأستاذ راشد الغنوشي يا دكتور، وبذلك شهد القريب والبعيد وشهد أهل تونس وجيرانهم وشهد الغرب وعدد من دوائره.

 

ثم يأتينا د. السيد مصرحا أكثر ومحدداً اختياره:

"وهكذا أصبحت الليبرالية في قاموس الأدبيات الإخوانية في الخليج العربي مثلا تعني معاداة الدين والمؤسسة الدينية، رغم أن هذا المفهوم لا يعني في المجال التداولي المحلي أكثر من مطلب التحديث والانفتاح والبناء المؤسسي للدولة ومحاربة الغلو والتطرف".

 

لك يا دكتور أن تتبنى الليبرالية فذلك حقك مع أنه يفضل فيه الوضوح والتصريح وليس التخير والتحيين  (مكاناً وزماناً) ولكن ليس لك أن تتحامل على القوم وهم في عين العاصفة وفوهة الاستهداف في بلدان سبق لك أن أصدرت في شأنها حكما لن تجد عليه كثير أنصار "في البلدان التي شهدت مسارات إصلاحية متدرجة سياسياً وتنموياً واجتماعياً" ولا تتبادر إلى الذهن هذه المسارات الإصلاحية خصوصا في المحور السياسي والإعلامي اللهم إلا ما كان في الكويت "المتهمة" أو قطر "المحاصرة"، ثم يعود الدكتور وبصراحة أكثر:  "لا يختلف الأمر كثيراً في البلدان العربية الأخرى التي يشتد فيها حالياً الصدام بين مشروع تدمير الدولة الذي تتبناه المجموعات المتطرفة بذريعة الآليات الإجرائية في الديمقراطية التعددية التي لا تتبناها فكرياً ولا إيديولوجيا ومشروع الإصلاح السياسي ضمن منظور الدولة الوطنية الحديثة"..

 

إنها مصادرة خطيرة وجرأة أخطر، هكذا بجرة قلم تعتبر مشروعا سياسياً مدنياً  ـ أغلب أهله ضحايا في الماضي والحاضر، كتابات أصحابه ومبادراتهم تنبئ عن تطور وتجديد واسعين في الفكر والممارسة ـ مشروعاً لتدمير الدولة! وتحكم أن أهله يرفضون الديمقراطية فكرياً وإيديولوجيا، هي إرادة واضحة عند دوائر نفوذ وبعض الكتبة أن يمنعوا ديمقراطية الإسلاميين أو أسلمة المنهج الديمقراطي، الديمقراطية حل  للمسألة السياسية لها أسس فكرية ومؤسسات سياسية وإجراءات عملية ولكنها ليست إيديولوجيا، فتكلف كبير الحديث عنها بهذا المعنى... وبعض مما يطرح الإشكال في شأنها ينتمي للفضاء الثقافي والاجتماعي وذلك بطبيعته يتعلق بخصوصية كل مجتمع وأمة، والديمقراطية بمخرجاتها كاشفة عن طبيعة الاتجاه العام للقيم السائدة والغالبة في أي مجتمع لا متحكمة فيه.

 

أغلب الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية حسم تبنيه للديمقراطية ومن هذا الأغلب من أسس لذلك فكريا ولم يعد الأمر بالنسبة له اختيارا سياسيا وتنظيميا مفضلا فحسب.

 

أما وصف المقابل للاسلاميين بأنه "مشروع الإصلاح السياسي ضمن منظور الدولة الوطنية الحديثة" فلا أعرف من يعني هذا الكلام، أيعني نظام مصر ـ وقد انفض عنه من يملك أي عنوان مدني أو ليبرالي ـ أم يعني نظام الإمارات الذي يمكن الرجوع إلى  تصنيفه السياسي ـ لا أتكلم عن التجارة والأعمال ـ عند أي جهة معتبرة في العالم الديمقراطي، أم يعني التيار الليبرالي وبالمناسبة فيه دعاة إصلاح سياسي وفيه من لم تغره المعركة ضد الإخوان ليقول أو يكتب ما يخالف ما عرف عنه!، ولكن فيه من استبطن الثورة المضادة فاحترق معها كما فعل بعض المعتزلة  "حين قبل أن يكونوا الأداة العلمية لظلم بعض خلفاء بني العباس مثلهم في  ذلك طبعا أهل سنة وشيعة مارسوا نفس السلوك في تكرار سيء للعلاقة الخاطئة لأهل العلم و الثقافة مع الاستبداد وأنظمة الجور.

 

ثم يزيد د. السيد و يصل  إلى الغربيين:

"وما تتجاهله بعض الأوساط الغربية المتعاطفة مع الجماعات السياسية الراديكالية هو أن الحالة الليبرالية كما تبين التجربة الأوروبية نفسها لا بد أن تسبقها لحظة بناء الدولة الوطنية القوية التي هي الدرع الذي يحول دون أن تتحول التعددية السياسية إلى مجرد واجهة للصراع الأهلي".

 

إنه التنظير الواضح أن الديمقراطية والتعددية تقتضي مرحلة تناقضها وتسبقها ومع أنه حاول أن يستبعد فكرتي: "الاستبداد العادل " أو "الثورات الاجتماعية" فإنه عاد ليؤكد: "بل بخيار ليبرالي شامل ومكتمل يسمح بتجنيب البلدان العربية صدمة التغيير العنيف وخطر "الاستبداد الانتخابي" الناتج عن هيمنة الجماعات الراديكالية عن طريق المسطرة الإجرائية الانتخابية".

 

إذن هي الدعوة لديمقراطية معروفة أطرافها، متحكم في مسارها ونتائجها، فالليبرالي ـ حسب السيد ـ يريد ديمقراطية آمنة! تقوم على "الانتخاب الاستبدادي" فلا مجال للصدمة أو المفاجأة أو التغيير، ومع ذلك فالخيار ليبرالي وشامل ومكتمل!

 

والطريف أو الغريب أو الملفت ـ حسب الذي تشاؤون ـ  أن المقالين اختتما بحديثين مع شخصيتين ليبراليتين في الأول: شخصية ليبية (دون تسمية)  ندمت وأصبح الهدف عندها  "استعادة الدولة لا إصلاحها"، وفي الثاني شخصية كويتية (د. أحمد الربعي) الذي ظهر لصاحبنا أن الأحداث أكدت "بعد نظره وعمق استشكاله".

 

أخطر ما في مكتوب د. السيد ومنقوله عن د. أحمد الربعي وربما كان هناك آخرون في نفس المسار هو التنظير والتسويغ للتحكم والقمع والإقصاء.

 

نقد الإسلاميين وارد ومفهوم بل ومطلوب أحيانا، منافستهم ومخاصمتهم واردة ومنطقية وحق لأصحابها.. أما أن تفكر اليوم في واقع العرب والمسلمين أن تيارا بهذا الحجم وهذا الحضور وهذا التطور يمكن أو ينبغي  إقصاؤه في إطار تضحية مؤقتة (غالباً ما تصبح مستمرة) بالحرية والتعددية أو توقعا وانتظارا لوضع يصبح خالصا لليبرالية فهو الخطأ عينه في التصور والتقدير، لا هو بالمقبول فكريا ولا المستساغ ديمقراطيا ولا الممكن عملياً، إنكم بهذا التفكير وهذا التنظير تدفعون الناس إلى التطرف والغلو وأخاف أن يكون ذلك هو هدفكم!

 

هذا الليبرالي العربي، هذا الأمير العربي أو ولي عهده، هذا الشيخ العربي، هذا العسكري العربي ..

يريدون إسلاماً متطرفاً وإسلاميين من أهل الغلو والعنف والإرهاب  ..

بذلك يبررون وعليه يؤسسون وعلى ضوئه ينظرون... ولا يزعجهم شيء مثل هذا الإسلامي المنفتح الذي يعيش زمانه ويفهم عصره وفي نفس الوقت متمسك بمرجعيته عاضٌّ على قيمه بالنواجذ..

على كل حال لن يتحقق لهؤلاء ما يريدون والتيار الإسلامي الديمقراطي هو الحل...