المذرذرة .. ماض مشرق في مواجهة النسيان

ثلاثاء, 07/28/2015 - 11:49

التصحر وزحف الرمال من أكبر التحديات التي تواجهها مدينة المذرذرة العريقة، وهو ما جعل البعض يجزم بأن الرمال هي الخطر القادم من الشرق إلى تلك المدينة الواقعة في الجزء الجنوب الغربي من البلاد، جنوب شرق العاصمة نواكشوط على بعد 150 كلم.

 

وهي العاصمة التاريخية لإمارة الترارزة، كما أنها تشكل أهم تجمع حضري بمنطقة "إگيدي" المعروفة بإشعاعها الثقافي والديني ،وما اشتهر عنها من إنتاج للقيم الأخلاقية على مستوى موريتانيا.

 

المذرذرة كما يراها المؤرخون ...كثيرون كتبوا عن مدينة المذرذرة معرفين بتاريخها وأهم خصائص المنطقة،وحسب الموسوعة الحرة "ويكيبيديا" فإن مدينة المذرذرة عرفت قديما باسم "الصنگه"،وهي كلمة مأخوذة من اللفظ الفرنسي (Cent gas) أي مائة شخص،ففي بداية الاستعمار كانت السلطات الفرنسية عندما تؤسس مركزا عسكريا تترك فيه مائة عسكري على الأقل؛ فانتقل هذا اللفظ من الدلالة على العدد إلى إطلاقه على الوحدة العسكرية حيث كان تواجدها،وتعتبر المذرذرة من أهم مناطق ولاية اترارزه التي عرفت بإشعاعها الثقافي والعلمي،و أنجبت العديد من الفقهاء والشعراء ولا زالت بعض محاظرها وجهة لطلاب العلم حتى يومنا هذا .تنقسم مقاطعة المذرذرة إلى خمس بلديات هي:بلدية المذرذرة المركزية، وبلدية التاكلالت،وبلدية ابير التورس، وبلدية الخط وبلدية تكنت،وكانت للمذرذرة مكانة اقتصادية وتجارية كبيرة ففي غربها سبخة "انترَرْتْ" التي تنتج وتصدر الملح، الذي كان من مصادر الدخل الاقتصادي لفترة طويلة، كما كانت المذرذرة مصدرا هاما لجني وتصدير الصمغ العربي، وتشكل غابات شجر القتاد الكثير "بإگيدي" مصدرا هاما لهذه المادة، وقد جذبت مدينة المذرذرة إليها في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي العديد من التجار واستقروا بها لفترة وخاصة من تجار منطقة آدرار. ظهرت بالمذرذرة وبمنطقة "إگيدي" عموما محاظر كان لها دور بالغ في تأصيل ونشر الثقافة العربية الإسلامية بموريتانيا بل وفي بعض بلدان غرب أفريقيا، وأنجبت المدينة الكثير من الأعلام البارزين الذين ذاع صيتهم أرجاء المعمورة،ومن هؤلاء أحمد بن العاقل، ومحنض بابه بن أعبيد، والشيخ أحمد بن سليمان، وامحمد بن أحمد يوره الديمانيون، وأحمد البدوي مولود بن أغشممت المجلسيان، والمختار بن ابلول، وبابه بن محمذن بن حمدي الحاجيان، والشيخ سعد بوه القلقمي وأبناؤه والمختار بن ألما، والمختار بن المحبوبي، ومحمد اليدالي، والمحفوظ ولد محمودا... وغير هؤلاء ممن شكلوا منارات علمية وصوفية كان لها أبعد التأثير في موريتانيا، وجعلت المنطقة تمتاز بكثرة المؤلفين والشعراء.وقد عرفت مدينة المذرذرة أسرا فنية عريقة مثل أهل مانو (أهل الميداح) وأهل اعلي وركان وأهل أحمد لولا وأهل انكذي، كانت لها أدوار جليلة في إغناء الفن الموريتاني التقليدي وإعطاء آلة "التدنيت" معنى ومغزى لا يستهان به، ويعتبر الفنان القدير المختار بن الميداح خير مثال على ذالك العطاء الفني التقليدي الغني، ويعرف عن المختار أنه لم يكن فنانا تقليديا فحسب بل كان على مكانة كبيرة من معرفة الفقه والشعر العربي والسيرة النبوية، فكان فصيح اللسان حلو الحديث يجالس العلماء والقضاة ويعطي رأيه في مسائل علمية ودينية، وإلى جانب هذا كان من أعظم الفنانين التقليديين فقد طور الألحان وأكسبها جمالا وروعة بليغين.وفي مجال الشعر الشعبي عرفت مدينة المذرذرة أسرة أهل هدار المعروفة بأدبائها المبدعين وشعرها الرفيع، فلا يمكن الحديث عن أدب اللهجة الحسا نية إلا وذكرت فضائل أمحمد بن هدار وإخوته سيديا وبابه وعابدين وبزيد وأبناؤهم وأحفادهم الكرماء، فلهذه الأسرة دور لا ينكر في تأصيل الشعر الشعبي الموريتاني والدفع بأساليبه الفنية والأدبية إلى الأمام.النكبة والنسيان.. مدينة المذرذرة بتاريخها الضارب الجذور في القدم ، والتي شهدت حقبا مزدهرة وأجيالا مستنيرة كانت خير رسل لمشروع حضاري عريق خلفه الأجداد، تحول كل ذلك اليوم هشيما تذروه الرياح، وغابت كل مظاهر البعث والتجديد واختفت المنشآت والمعالم الثقافية والنوادي النشطة وغيرها من عوامل قد تستطيع مجتمعة تحريك المياه الآسنة ، ولئن كان "منتدى الشباب لتطوير الثقافة والديمقراطية" حاول جاهدا بعث الحياة الثقافية وإعطاء مفهوم جديد للممارسة السياسية، فإنه اصطدم بالواقع المتصلب الذي ظل طيلة العقود الماضية صخرة تتحطم عليها كل مساعي الإصلاح والتجديد الصادقة.الوفاء.. أم الجفاء؟ قبل العام 1994 لم يكن الطريق إلى المذرذرة سهلا ،لقد كان "يتيه سندباد" كما عبر أحد أبناء المدينة حينها في نشوة الفرح المبالغ فيه بذلك الانجاز "الملهاة"، واليوم فإنه بدون شك ليس سالكا أمام السندباد ولا غير سندباد، فالمهزلة التي أهاجت المخيلة الشعرية لكثيرين من أبناء المنطقة، تحولت اليوم إلى برك ومستنقعات تشقي المواطن أكثر مما تسعده ،ولعل ذلك ما يعطي الانطباع أن المدينة على موعد مع "الوفاء الناقص" على رأس كل عشرين سنة ، فبعد عقد من "الوفاء المأساة"،تم تزويد المذرذرة بخدمات الكهرباء "الناقصة"،و الله وحده يعلم مآلها.المقاطعة العريقة لم تستفد كذلك من خدمات الهاتف، والبث المقوي للتلفزيون الوطني إلا مؤخرا، ورغم كل هذه المظاهر المثيرة لليأس فإن المواطنين لا يزالون يطالبون بتغيير هذا النمط من التعاطي مع القضايا الهامة ،ومن أهم ما يطالبون به اليوم أن يتم تعبيد الطريق الرابط بين تكند والمذرذرة ليكتمل الوفاء ـ وإن بعد فوات الأوان ـ في مظهر آخر من مظاهره، ولكي لا يكون قدرا علي سكان المذرذرة أن يسموا الأشياء بغير مسمياتها.وبالنسبة لخدمات الكهرباء التي استفادت منها المدينة مؤخرا، فإن الغالبية المحرومة من هذه الخدمات "الناقصة أصلا" يطالبون السلطات الوطنية بإلحاح أن تسارع في إكمال هذا المشروع وجعله في خدمة المواطن ليتم ربط المدينة بباقي مقاطعات ومدن الوطن وليستفيد سكانها من الخدمات البسيطة المتاحة لكل المدن التي تعتبر المذرذرة من أكثرها عراقة على حد تعبير المواطن عبد الرحمن،الذي يطالب السلطات بالاهتمام أكثر بشؤون المواطنين..خسرت حلما جميلا وما خسرت السبيلا..لئن كان سكان مقاطعة المذرذرة قد خسروا فرصا كثيرة لتغيير واقعهم الصعب، فإنهم بدون شك لم يخسروا السبيل إلى ذلك،وإصرار المواطنين وتشبثهم بالأفضل يبقى هو الحل السحري لما يعانونه من مآسي ألقت بظلالها على مختلف مناحي الحياة،وجعلت لسان حالهم يردد بعد كل إنجاز المثل القائل"أحشفا وسوء كيله".. فهل تحمل الأيام القادمة أملا لسكان المدينة التي تكاد الرمال تطمرها..؟؟