أي دور ثقافي يمكن أن تلعبه موريتانيا في مجال الدبلوماسية الثقافية؟
الموضوع الذي سوف أتطرق إليه بإيجاز في سياق هذه الورقة، هو الدبلوماسية الثقافية، موريتانيا نموذجا، مع إشارة سريعة إلى ماهية الدور الثقافي الذي يمكن أن تلعبه البلاد على الصعيد الدبلوماسي.
وقد لامست في مقاربتي للموضوع ، و بشكل مقتضب ، أربعة محاور تشكل قوام هذه الورقة . وتلكم المحاور هي :
- الدبلوماسية في مفهومها التقليدي
- الدبلوماسية الموازية في بعدها الثقافي
- الوضعية الراهنة للدبلوماسية الثقافية الموريتانية
- الدور الثقافي الذي يمكن أن تلعبه البلاد على الصعيد الدبلوماسي.
المحور الأول:
الدبلوماسية في مفهومها التقليدي
الدبلوماسية لغويا، لفظة متفرعة عن الكلمة اللاتينية ذات الأصل اليوناني : Diploma التي تعني إتيمولوجيا وثيقة مطبوعة متكونة من شقين أو دفتين اثنتين، يزود بها شخص مكلف بمهام رسمية ، قصد التعريف به و اعتماده من قبل الجهة الموفد إليها. و اصطلاحا تحيل إلى مجموعة من التدابير و الممارسات و الحيثيات و المساطر التي ترمي إلى إقامة علاقات سياسية و اقتصادية و ثقافية بين الدول، و العمل على تعزيزها و تعميقها و توظيفها لخدمة مصالح تلك الدول، و ذلك عن طريق تمثيليات دبلوماسية يشرف عليها سفراء معتمدون رسميا لهذا الغرض. وقد عرف الكاتب و المفكر البلجيكي
Jaques Sterngerg
الدبلوماسية بأنها: l’art de l’escroquerie courtoise” " أي: "فن الخداع المهذب".
و هذا النمط من الدبلوماسية هو ما بات يوصف اليوم بالدبلوماسية التقليدية.
ولقد أدركت الأمم المتقدمة ضرورة ووجاهة إكماله و إسناده بنشاط دبلوماسي إضافي يكون أوسع و أشمل و أكثر فعالية و نجاعة . نشاط متعدد التجليات و الأبعاد، تمت تسميته بالدبلوماسية الموازية. ولعل أهم جوانب هذه الدبلوماسية هو ما صار يعرف اليوم بالدبلوماسية الثقافية.
المحور الثاني
الدبلوماسية الموازية في بعدها الثقافي
إذا كانت الدبلوماسية التقليدية تعتمد على عمل و نشاط السفراء و القناصل و طواقم الدبلوماسيين الذين يساعدونهم، وتتوسل المبعوثين الخاصين ، و الرسائل الدبلوماسية ، و زيارات الرؤساء الرسمية ، و لقاءاتهم على هوامش المؤتمرات و اللقاءات الدولية، فإن الدبلوماسية الثقافية ، تتمثل أساسا في أنشطة و ممارسات و أداءات فاعلين مرموقين يتمتعون بمهارات و مواهب و عبقريات متميزة في مجالات العلوم و الآداب و الفنون الجميلة و الفكر، فضلا عن مقدرات خاصة على التعبير الجسدي و الأداء الرياضي و الذهني، تكون محل إعجاب و مثار إكبار على الصعيدين المحلي و العالمي.
فأعمال و اداءات و انجازات هؤلاء الفاعلين الثقافيين و الرياضيين و ما يتصفون به من مواهب و كفاءات وعبقريات مثيرة للاستحسان ، تجلب لهم إجلال و تقدير شعوب العالم.
فيكون لذلك أثر كبير و انعكاس معتبر على بلدانهم،.حيث يضعها تحت دائرة الضوء ، ما يتيح التعريف بموقعها الجغرافي و خصائصها الاجتماعية و الثقافية و مواردها الاقتصادية و مكانتها على المشهد الدولي. و هذا ما لن تمكن منه على الوجه المطلوب أنشطة السفراء و إيفاد المبعوثين و زيارات الرؤساء مهما كانت كثافتها و تسارع وتيرتها.
المحور الثالث
الوضعية الحالية للدبلوماسية الثقافية الموريتانية
لقد عرفت الدبلوماسية التقليدية الموريتانية تراجعا ملحوظا منذ سقوط نظام المرحوم المختار ولد داداه، إثر الانقلاب العسكري الذي قيم به ضده سنة 1978. و مازالت دبلوماسية البلاد من ذلك التاريخ، تعاني من ضعف في الأداء و محدودية في الفعالية.
و ما انفكت تتسم بالارتجالية وغياب الرؤية الإستشرافية، نتيجة لانعدام مؤسسات التفكير الإستراتيجي القمينة بتصويب و منهجة و توجيه العمل الدبلوماسي و رسم ملامح الأهداف الإستراتيجية التي ينبغي لهذا العمل الإستأناس بها ووضعها في الاعتبار حسب ما تستلزمه طبيعة التحديات التي يجب رفعها و الرهانات التي ينبغي كسبها في المديين المتوسط و الطويل.
و هذه الإختلالات المزمنة تجعل الدبلوماسية التقليدية الموريتانية بحاجة ماسة إلى قسط كبير من التفعيل و النجاعة و العقلنة ، من شأنه أن يسمو بمستواها و يحسن من أدائها و يرفع من مرد وديتها.
و هذا ما يستدعي بدوره الاستعانة بالدبلوماسية الثقافية حتى يتم تخطي ما تعرفه الدبلوماسية التقليدية من ركود و قصور قد تنجر عنهما تداعيات سلبية لا مناص من أن تطال بشكل أو بآخر إشعاع و تأثير و نفوذ البلاد على المستوى الدولي..
ورغم أن بلاد شنقيط قد عرفت ابتداء من القرن السابع عشر نهضة علمية ملحوظة ، امتد تأثيرها إلى كل من المشرق و المغرب و و الجنوب الصحراوي، بفضل علماء مرموقين شكلوا خير سفراء لهذه الربوع و مهدوا الأرضية الصالحة لدبلوماسية ثقافية موريتانية تلقائية كان لها ، و لردح طويل من الزمن، صدى لا يستهان به .
إلا أنه فيما بعد، ظهرت مجموعة من العوامل من بينها مجيء الاستعمار الفرنسي و تراجع المعارف التقليدية جراء تقلص أعداد المحاظر ، و تدني مستوى التعليم النظامي و عدم إدراك بعض السلطات المختصة بالبلاد ، للأهمية البالغة التي تكتسيها الثقافة بكل أشكالها و أبعادها. هذه العوامل مجتمعة جعلت المشهد الثقافي الموريتاني يعاني ولوقت طويل ، من الضمور و الذبول .
و ما قد زاد من تفاقم الأمور، هو ضعف البحث العلمي الناجم عن تدني مستوى التعليم ، و فتور حركة التأليف المتعالقة مع غياب دور النشر، و عدم توفر الكتاب بالأسعار التي تتماشى و القدرة الشرائية لجل القراء بالبلاد.
يضاف إلى هذا و ذاك ، تعثر أنشطة الخلق و الإبداع في مجالات العلوم و الادا ب و الفنون، نتيجة ، من بين أشياء أخرى، لغياب مسرح وطني و معهد للفنون الجميلة و كونسرفاتوار ودار للابيرا و مؤسسة وطنية للسينما . و نتيجة كذلك لعدم تشجيع و تحفيز الفنانين و المبدعين و أصحاب العبقريات و المواهب ، في المجالات المختلفة ، و عدم تثمين جهودهم و رسملة إنتاجهم ، بحيث يؤمن لهم كسبا مشروعا و يعود على البلاد بنفع عميم.
رغم كل هذه العراقيل و العقبات المثبطة للهمم ، و التي من شانها أن تفت في عضد مختلف أصناف الفاعلين الثقافيين الموريتانيين، فإن البلاد ، من فضل الله ولطفه بها ، تزخر اليوم بالعلماء المتمكنين و الكتاب و الأدباء اللامعين، و الشعراء المتألقين و الفنانين المتميزين في مختلف ألوان الفنون الجميلة ، من موسيقى و رسم و نحت ، كما أن بها مسرحيين و سينمائيين مؤهلين . دون أن نغفل الرياضيين الصاعدين الواعدين و النوابغ في الألعاب الذهنية و المجتمعية و غيرهم.
و غني عن البيان، أن كل هذه المواهب و العبقريات ، إذا ما تم تأطيرها ودعمها و مواكبتها و الاعتناء بها على الوجه الأكمل، و تحفيزها معنويا و ماديا ، و تثمين عطاءاتها و توظيف نبوغها ، و استثمار قدراتها، فإن من شأنها أن تعطي دفعا هائلا لدبلوماسية موريتانيا الثقافية التي ما زالت بحاجة إلى المزيد من التطوير و التفعيل.
و يتم ذلك من خلال اتخاذ كل التدابير اللازمة من أجل تمكين هذه العبقريات من المساهمة بانتظام في المهرجانات و المواسم و الفعاليات العلمية و الثقافية و الفنية و الرياضية الدولية..
ولكي نقيس درجة ما يمكن أن يجلبه أصحاب المواهب الفذة و ذوي العبقريات المتألقة في كل المجالات لموريتانيا ، من سمعة طيبة و من شهرة و جاه من خلال مشاركاتهم في الفعاليات الدولية ، فإنه يكفي أن نتدبر ما أحرزه أمراء الشعراء الموريتانيون في مهرجانات الشعر بالشارقة من أمثال محمد ولد الطالب و سيدي محمد ولد بنب وغيرهم ، من فخر و عز للبلاد، رفعا رؤوس جميع الموريتانيين بين العرب. ناهيك عما قام به السيد سيسوكو من إعلاء لشأن موريتانيا إثر حصول فلمه "تينبكتو" على جائزة الاوسكار بمهلرجان كانن السنوي للسينما.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال ما جلبه لبلادنا من مجد و رفعة ، التألق الباهر الذي أظهرته الفنانتان المقتدرتان الشيخة المعلومة بنت الميداح و منى بنت دندني على التوالي في مهرجان جرش بالأردن و مهرجان قرطاج بتونس خلال الأسابيع الماضية.
ولا ريب أن كل هؤلاء العباقرة المتميزين و غيرهم من أصحاب المواهب الآ خرين، قد أسهموا و سيستمرون في الإسهام من خلال عطائهم الأدبي الرفيع و أدا ئهم الفني الباهر إسهاما كبيرا في الرفع من شأن موريتانيا و في ذيوع صيتها و تلميع صورتها و كسب الاحترام و التقدير لها بل و خلق تيار من التعاطف معها عبر العالم ، و هذا ما ليس بمقدور الدبلوماسية التقليدية إنجازه على الوجه المطلوب مهما بذلت من جهد من أجل ذلك .
و هنا يكمن الفرق بين فعالية و نجاعة و مردودية الدبلوماسية الثقافية و مراوحة و روتينية و تعثر الدبلوماسية التقليدية التي ما زال بلدنا يعتمد عليها وحدها في سعيه إلى التعريف بنفسه وإبداء محاسنه للعالم.
المحور الرابع و الأخير
الدور الثقافي الذي يمكن أن تلعبه البلاد على الصعيد الدبلوماسي
تتوفر بلادنا على علماء من الطراز الأول من أمثال العلامة عبد الله بن محفوظ بن بي الذي يعد مفخرة للبلاد ، تعتد به و تزهو بانتمائه إليها . و قد أسهم هو الأخر إسهاما عظيما في رفع ذكر موريتانيا و الإعلاء من شأنها بمجرد كونها وطنه و مسقط رأسه.
وفضلا عما تتوفر عليه موريتانيا من علماء و شعراء و كتاب و فنانين، فإنها إلى ذلك تتسم بتنوع ثقافي، تبعا لتعدد أعراقها. الشيء الذي أتاح لها امتلاك تراث متنوع و فلكلور متميز يعكس انتماء البلاد للعا لمين العربي و الإفريقي ، و رسوخ قدمها في هذين الفضائيين و إمكانية التأثير فيهما و االتماهي المتبادل مع كل منهما.
شعراء موريتانيا الأفذاذ الذين بزوا أقرانهم في المنتديات و المهرجانات الشعرية العربية و حصدوا فيها التكريمات و الأوسمة و الألقاب المشرفة ، قد أكسبوا البلد، و عن جدارة ، صفة و لقب بلد المليون شاعر بعد أن وصل درجة من الدونية جعلت بعض الإخوة العرب ينزعون إلى استصغار ِشأنه و تصنيفه ، ربما لعدم معرفتهم لتراثه التاريخي الزاخر، ضمن ملحقات و زوائد العالم العربي ، شأنه شأن جيبوتي و الصومال و ما شاكلهما.
و لا بد من جهة أخرى ، من التنويه إلى أن الفنانين الموريتانيين و الفنانات الموريتانيات يتألقون و يخطفون الأضواء في المهرجانات العربية و الدولية كلما أتيحت لهم الفرصة في أن يشاركوا فيها، بحيث أن كل غياب لهم في هذه الفعاليات الدولية يعد بحق كسبا ضائعا للبلاد وإهدارا فرصة ثمينة لوضعها تحت دائرة الضوء.
هؤلاء الرواد و أمثالهم ، و هم كثر ، و الذين لا يتسع هذا المقام لذكرهم جميعا ، كفيلون إذا صاروا موضع اهتمام كبير و عناية فائقة من طرف الدولة ، و إذا ما أحرزوا على دعمها و مواكبتها ، أن يوسعوا من دائرة إشعاع البلاد و من مجال تأثيرها و نفوذها و أن يضعوها على السكة المفضية إلى البروز و الشهرة ، وصولا إلى تسنم االريادة و احتلال الصدارة بين الأمم.
و هذا في رأينا، هو المحك الحقيقي لنجاح الدبلوماسية و الدليل الساطع على نجاعتها ، و المعيار الموضوعي الذي تقاس به جدوائيتها و مرد وديتها.
نواكشوط 17 أغسطس 2015