هناك شبه اتفاق بين المؤرخين على أن الإسلام ظل لمدة اثنى عشر قرنا هو المرجعية الوحيدة التي يقتبس منها الأفراد تصوراتهم العقدية وقيمهم الخلقية، وعلى هديها تعيد الجماعة صياغة علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية، وتسن مختلف نظمها وقوانينها، وتؤسس القواعد المحددة
لمفهوم الحق والخير والعدل، والجمال، لكن ما إن برزت الدولة الصناعية الغربية بمؤسساتها القائمة على رؤية علمانية للوجود– بعد مخاض عصر الأنوار وتحولات العصر الصناعي الذي مهد لمرحلة الاستعمار – حتى بدأ تأثير الشريعة الاسلامية يتقلص - تدريجيا - نتيجة تعطيل آلية الاجتهاد والتجديد التي هي وسيلة الدين الاسلامي لمواكبة التحولات الاجتماعية المتسارعة، وهيمنة الاستعمار الغربي مما أدى إلى :
- انهيار نظام الخلافة الإسلامية الشكلية
- تقليص دائرة تأثير الشريعة الإسلامية على بعض جوانب الحياة
- وحلول القوانين الوضعية محل النظم الاسلامية في أكثر مجالات الحياة أهمية " القضاء والاقتصاد والسياسة ".
وقد أدى هذا الوضع - كما يقول الشيخ عبد الله بن بيه - إلى أن تكون " الشريعة خارج المجال اليومي للحياة، أي خارج الممارسة في الواقع في أغلب الأقطار" (تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع ) .
أما جون رولز فيرى : "إن الشريعة الاسلامية كانت قانونا أخلاقيا أنشأ مجتمعا جيد التنظيم، وساعد على استمراره، ولكن مع بداية القرن التاسع عشر وعلى يد الاستعمار الاوربي تفكك النظام الاقتصادي – الاجتماعي والسياسي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكليا، أي أن الشريعة نفسها أفرغت من مضمونها واقتصرت على تزويد تشريعات قوانين الأحوال الشخصية في الدول الحديثة بالمادة الخام" ( الدولة المستحيلة)
وقد ربط الشيخ عبد الله بن بيه هذا التحول الجذري الذي حدث في العالم الإسلامي بالثورة العلمية التي أدت إلى تحولات اجتماعية وسياسية لم تعرف البشرية لها مثيلا، حيث يقول: إن " مسيرة الحياة تشهد تغيرات هائلة وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة، للتمازج بين الأمم والتزاوج بين الثقافات إلى حد التأثير في محيط العبادات والتطاول إلى فضاء المعتقدات"، ويلفت النظر إلى مدى قوة تأثير هذا التحول على النظام الاجتماعي، وإلى خطر المآلات التي قد يقود إليها، بسبب أن "الأنظمة الدولية والمواثيق العالمية ونظم المبادلات والمعاملات قد أصبحت جزءًا من النظم المحلية، وتسربت إلى الدساتير التي تعتبر الوثائق المؤسسة فيما أطلق عليه اسم العولمة والعالمية" (التجديد بين الدعوة والدعوي)
لقد أحدث هذا التحول - لأول مرة في التاريخ الإسلامي - صدمة عنيفة للعقل المسلم الذي لم يكن يتصور أن هناك نظاما - في الوجود - يمكن أن يطمح في أن ينافس الشريعة الاسلامية خارج المجال الإسلامي أحرى أن يوجد نظام يزاحمها في عقر دارها، فيختاره المسلمون ويتبنونه من غير ردة عن الإسلام أو إكراه على ترك شريعتهم.
وقد فرض هذا الواقع نفسه على المسلمين، مما جعل كثيرا من المفكرين والفقهاء المجتهدين يكرسون حياتهم لعلاج هذه الظاهرة، قبل الإجابة عن الأسئلة المفتاحية ماذا نجدد؟ و"كيف ؟" و"بم" و"من " ؟ ..فكثر الكلام عن التجديد وقل المجددون.
وقد اتخذت دعوات المجددين طرائق قددا؛ فكان منهم من ركز على "إصلاح العقيدة" ومنهم من اهتم بالسياسة، ومنهم من ولى وجهه شطر الأخلاق، أو "التعلم"، ومنهم من بشر بتجديد شامل ينطلق من شمولية الإسلام، لكنه لم يهتم بتجديد طرائق التفكير، ومناهج الاجتهاد، وإصلاح العقل المسلم الذي تحول في عصور الانحطاط من أداة توليد للفكر وتحليل له ونقد، إلى أداة تسجيل واستظهار، حيث ركزت أكثر الدعوات على إحياء السلوك الاسلامي وتوظيف الأدوات والمعارف التي وظفها العلماء الأقدمون في التفكير والاستنباط فأعادوا مقولاتهم الجزئية في غير زمانها، وأحيوا خلافاتهم التاريخية بعد أن ماتت مع أصحابها، فشغلهم ذلك عن التصدي لمهمة التجديد، والإجابة عن الإشكاليات المعاصرة. لكن خطابهم لقي رواجا شعبيا كبيرا؛ وهو ما أدى - كما يقول الشيخ عبد الله بن بيه – إلى
- "إقبال الناس على أحكام الشريعة دون أن يحيطوا علماً بمصادرها ومواردها وجزئيات نصوصها وكليات مقاصدها".
- بروز "سوق ظاهرية قل علمها وضاق فهمها، استظهروا بعض الجزئيات دون ردها إلى الكليات، فغاب عنهم الجمع والفرق والتعليل، فلم يصيبوا في التنزيل"
- قيام "نابتة علمانية -كرد فعل- كادت أن تودع الدين وتلوذ بأذيال الغرب، بحثاً عن
الخلاص، وفراراً من منطق لم تعهده، ومنطلقات لم تعرف مداها، ومستقبل لم يهيئه حاضرها " (تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع ) .
ومن يتتبع انتاج الشيخ العلامة عبد الله بن بيه المعرفي الغزير ويحاول استيعاب منهجه التجديدي، ونسقه الفكري، يجد أنه ينطلق من إشكاليات تجديد مناهج التفكير الشرعي، وطرائق الاستنباط أولا، بدءا بتحديد مفهوم التجديد وموضوعه، ومراجعة أدواته، حيث يقول "إن للتجديد أدواته، كما لكل بناء أدوات، وقبل الشروع في البناء علينا أن نخترع الأدوات أو نفحص ما لدينا من أدوات؛ لنرى صلاحها وصلوحيتها" (التجديد بين الدعوة والدعوي ).
وتأسيسا على هذا المنهج الأصولي، والرؤية الفكرية يعيد طرح مجموعة من الاسئلة التي يرى أنه يتعين على العلماء الاجابة عنها وهي :
- ما مدى استجابة التشريع للقضايا البشرية المتجددة، رغم أن نصوصها محدودة ووقائع الحياة غير متناهية.
- ما مدى ملاءمة التشريع للمصالح الانسانية وضرورات الحياة ؟.
- ما هي المكانة الممنوحة للاجتهاد البشري المؤطر بالوحي الإلهي ؟" (مقاصد الشريعة)
وهذا ما جعله يطلق - في منهجه التجديدي – من أصول الفقه؛ باعتبار ذلك هو المدخل الصحيح لتجديد الفقه والتفكير ، لأن التجديد في أصول الفقه "هو بالضرورة تجديد في الفقه ذاته؛ لأنه هو المستهدف في الأصل والنتيجة المتوخاة" ولأن "القضايا الفقهية – التي تمثل للمسلمين المنظومة التعبدية والقانونية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة يجب أن تواكب مسيرة الحياة" (التجديد بين الدعوة والدعوي).
وقد حصر الشيخ وظيفة أصول الفقه في غايتين تشريعيتين هما الاستنباط، والانضباط بهدف "التوسط بين الوحي والعقل، وبين الأوامر الشرعية في إطلاقها الأزلي وبين الواقع الإنساني ببعديه الزماني والمكاني "، وبين أن "أصول الفقه في الوقت الحاضر لا يفضي إلى إنتاج الأحكام في مستجدات الوقائع" مستدلا على ذلك بواقع المجامع الفقهية نتيجة "وجود عجز في التواصل بين الواقع وبين الأحكام، وأحيانًا إلى عدم الانضباط في الاستنتاج والاستنباط"، وأعاد سبب ذلك إلى عدم : "مراجعة أدوات توليد الأحكام والاجتهاد المعطلة". ( فقه الواقع والتوقع)
وقد فتح الشيخ المجال أمام العلماء – في كل زمان ومكان - لإعادة رسم مقاصد الشريعة حسب حاجات الاجتماع البشري، وتطور المعرفة، والواقع الدولي، انطلاقا من روح الشريعة، وقواعد التشريع، بشرط التقيد بقواعد أصول الفقه، بدل التقوقع في "المقاصد" التي حددها إمام الحرمين أو الشاطبي، أو الطاهر بن عاشور، كما لو كان تطور الاجتماع قد توقف، حيث يقول "المقاصد الكبرى التي تحكم الشريعة لا يمكن ادعاء الحصر فيها فكل عالٍم يقترح مقصداً بناء على ما فهمه" ( مقاصد الشريعة)
فالشيخ يدعو إلى مقاصد متجددة بتجدد المعرفة ورقي العقل، وتطور الاجتماع البشري، كما ينادي بضرورة توظيف عناصر معرفية جديدة لفهم "دلالات الألفاظ"؛ إذ يرى أن عملية الفهم تتعلق بموضوع : "دراسة الظاهرة اللغوية في علاقتها بالوحي، وليس ذلك خاصًا بحضارتنا، فموضوع الظاهرة اللغوية شغل الدراسات الغربية في ميدان اللسانيات وبخاصة في الهيرمينوطقيا وهي تفسير النصوص المقدسة، أو ما عبر عنه بول ريكور بأنه: فن تأويل النصوص في سياق مؤلف النصوص ومتلقيها الأوائل". (التجديد بين الدعوة والدعوي )
وقد سبق للشيخ في كتابه (أمالي الدلالات) أن أصل لهذه المسألة – من داخل التراث الاسلامي – حيث ذكر قول الجصاص إن "اللغة العربية لا شان لها في الدلالات "وانما يختص اهل اللغة بمعرفة الأسماء والألفاظ الموضوعة لمسمياتها بأن يقولوا إن العرب سمت كذا بكذا فأما المعاني ودلالات الكلام فليس يختص أهل اللغة بمعرفتها دون غيرهم ممن ليس من أهلها فقولهم قال ذلك بعض أهل اللغة ساقط لا اعتبار به ".
من هنا اقترح الشيخ أن تنطلق عملية التجديد من : " وضع مقدمة لدراسة الظاهرة اللغوية من كل جوانبها ونواحيها وزواياها لاستخراج خباياها انطلاقًا من ثلاثي: الوضع والاستعمال والحمل" معتبرا أن انقسام الدلالة إلى ( حقيقة وضعية، وحقيقة عرفية، وحقيقة شرعية، ومجاز) ،إنما يعود إلى "توصيف الظاهرة اللغوية من حيث تطور الدلالة" بسبب عامل الزمن والاستعمال.
يتواصل.................