على هامش الحوار الليبي الدائر هذه الأيام في المغرب، التقيت شخصية سياسية مرموقة من إقليم الزنتان قالت لي بكل قلق وامتعاض: «حتى لو توافق الفرقاء المتصارعون وانتصرت الشرعية في ليبيا في مواجهة الفصائل المسلحة والمليشيات المتطرفة، فإن رجوع الدولة المركزية يظل خياراً بعيداً غير مؤمّل، ذلك أن كل مرتكزات النظام الجماعي انهارت عملياً وتحللت هياكل الإدارة والشأن العمومي، ولا أحد يدري ما العمل».
ونفس التحليل سمعته من ديبلوماسي فرنسي عاش طويلاً في سوريا وكتب كثيراً حول المجتمع والدولة في بلاد الشام، وقد خلص من متابعته المستمرة للوضع الداخلي السوري إلى أن المشكل اليوم لم يعد سقوط النظام القائم الذي لا يسيطر عملياً على أكثر من ثلث البلاد، بل هو استحالة استعادة كيان الدولة الذي كان قائماً قبل الفتنة الأخيرة.
قد يبدو الوضع خاصاً بالمنطقة العربية التي تعيش منذ سنوات أربعٍ مسار تحول عاصفا، لكنه في الواقع أوسع مدى وأبعد أثراً من دائرتنا الإقليمية الضيقة، ولقد بدأ المشهد في التسعينيات من جنوب أوروبا في مجال البلقان قريب التركيبة الدينية والديمغرافية من المشرق العربي، كما شهد شرق أفريقيا أيضاً تحولات مماثلة أفضت الى تحلل دول وانقسام أخرى (وهو فضاء آخر شديد التداخل مع العالم العربي).
ومن الجلي أن القوى الدولية وجدت نفسها في عجز كلي عن التعامل مع هذا المشهد الذي تمتزج فيه حركيات ثلاث متمايزة لا يمكن اختزال بعضها في بعض: ديناميكية الانتقال السياسي من الأحادية الاستبدادية إلى التعددية الديمقراطية، وديناميكية الحرب الأهلية والفتنة الدينية القومية، وديناميكية الصراع الدولي في مناطق بقلب الرهانات الاقتصادية الجيوسياسية الجديدة.
ولا يمكن من هذا المنظور فهم التدخل العسكري الروسي الأخير في الصراع السوري الداخلي إلا كتطور منطقي في الاستراتيجية الروسية التي تعاملت منذ حروب البلقان مع المشهد كله من زاوية الصراع الدولي على تركة الحرب الباردة التي كانت خاسرة فيها، معتبرة أنها طرف معني ومتأثر بأوضاع هذا المجال الممتد من جنوب أوروبا إلى شرق أفريقيا مروراً بالعالم التركماني وجنوب المتوسط. أما القوى الغربية فقد عجزت عن تكرار تجربة التدخل العسكري في البلقان في الساحة السورية وطرحت على استحياء خيار التقسيم الذي اختبر سابقاً في شرق أفريقيا (انفصال أرتيريا وجنوب السودان) ووجدت نفسها في ورطة الاختبار بين إنقاذ النظام من أجل محاربة «داعش» أو الرهان على معارضة ضعيفة غير قادرة على افتكاك مواقع المتطرفين المستفيدين من انهيار الحكم القائم.
وفي ما وراء هذا المأزق الاستراتيجي، قرأنا لكُتاب غربيين علقوا على ماساة اللاجئين السوريين بالقول إن أوروبا تدفع ثمن إخفاقها في نشر وتصدير نموذجها السياسي التنموي الذي أخرج القارة العجوز من الحروب الطاحنة التي مزقتها منذ نهاية العصور الوسيطة إلى الحربين العالميتين الأخيرتين، كما ضمن لها الرفاهية الاقتصادية والسلم الأهلي. ومع فشل مشروع الانتقال الليبرالي في روسيا وتمنع الصين على التحول ونجاحها في نموذجها الرأسمالي المركزي وتعثر تجارب التحول الديمقراطي في أفريقيا وأميركا الجنوبية، أصبح من المشروع التساؤل حول سر الخصوصية الغربية (أوروبا وأميركا الشمالية)، ولماذا فشلت الحلول التي أبدعها العقل الأوروبي في بناء المجتمعات والدول خارج السياق الغربي؟
وللتذكير فإن هذه الحلول ثلاثة: الدولة القومية (أو الدولة- الأمة) لحل مشكل التنوع العرقي والثقافي والديني. والسوق الحرة لحل مشكل ندرة الموارد والفقر والتفاوت الطبقي المغلق. والعلمانية لحل مشكل الصراع الديني وإدارة تنوع المعتقدات والمقدسات. وكما لا يخفى فإن هذه الآليات الثلاث شديدة الترابط من حيث النشأة، باعتبار أن السوق هي التي ولدت الرابطة الاجتماعية المدنية التي تأسست عليها الدولة المركزية في عقلانيتها البيروقراطية ونظامها الإداري التسييري، كما أن العلمانية كانت نتيجة طبيعية لتحول انهارت فيه قبضة المؤسسة الكهنوتية وتشتتت فيه الأفكار والمعتقدات الفردية.
وما نريد أن نبينه هو أن هذه الحلول الثلاثة تشهد اليوم أزمات حادة في سياقها الأصلي، كما تعرف تنافراً متزايداً بين مكوناتها الذاتية بعد خروج السوق عن نطاق تحكم الدولة القومية، ولم تعد هذه الدولة قادرة على التعبير عن الهوية الجماعية المشتركة، ومن هنا انفجار الهويات الخصوصية بتأجيج المتخيل الديني وتجدد النزعات الأصولية التي لا تتخذ شكلاً عنيفاً في الغالب ولكنها تترك أثراً سلبياً متفاقماً على طبيعة الكيان الجماعي.
إن هذه الأزمة التي تعرفها آليات النموذج السياسي المجتمعي الغربي في سياقها الأصلي هي التي تفسر مصاعب تمريرها ونشرها في المجتمعات الأخرى وفي مقدمتها المجال الإسلامي الواسع الذي تتركز فيه اليوم مخاطر التحول.