كما هو مألوف مواقفه من البلدان الخليجية، شن الصحافي المصري المعروف «محمد حسنين هيكل» هجوماً شرساً على التحالف العسكري العربي الداعم للشرعية في اليمن، متهماً السلاح الخليجي بتدمير ما بناه اليمن في قرن كامل. وفي مقابلته التلفزيونية الأخيرة بدأ الصحافي العجوز الذي دخل عالم الكتابة السياسية من البوابة القومية في الحقبة الناصرية مدافعاً بقوة عن التدخلات الإيرانية في القضايا العربية، متذمراً من محاولات إحياء المنظومة الاستراتيجية العربية المستقلة التي تتزعمها راهناً المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.
ولا شك أن هذا الموقف الذي نلمسه لدى بعض الكتاب والسياسيين الرافعين للشعار القومي العربي يعكس أزمة وعي وموقف خطير، في مرحلة شهد النظام الإقليمي العربي أسوأ مراحل التأزم والتفكك، بتحلل مركز المشرق العربي (العراق وسوريا) ودخول البلدان العربية الرئيسة الأخرى مراحل صعبة من الانتقال السياسي ومواجهة الإرهاب والتطرف.
وكما هو معروف فإن النظام الإقليمي العربي الذي برز منذ نهاية الأربعينيات قام على ثلاث أفكار أساسية هي:
- المرجعية القومية المستندة لفكرة الهوية العربية بمنظورها الثقافي والقيمي ومخزونها الرمزي القوي الذي يتجاوز كل الصياغات الأيديولوجية التي ظهرت لاحقاً.
- فكرة الوحدة الاندماجية بين البلدان العربية أفقاً سياسياً وإستراتيجياً ومطلباً ناظماً لكل النظم والتجارب المؤسسية التي عرفتها الساحة العربية منذ تأسيس جامعة الدول العربية قبل ستين سنة.
- فكرة الأمن القومي التي تقوم على الوعي بالمصالح المشتركة والتكامل الفعلي من حيث الفرص والتهديدات، كما أنها الفكرة الموجهة في علاقات العرب بدائرة جوارهم ومحيطهم الدولي.
ومع أن العالم العربي عرف منذ الخمسينيات حرباً باردة بين كتلتين عرفت إحداهما أوانها بالكتلة المحافظة أو المعتدلة والأخرى بالكتلة الثورية أو الراديكالية، كما أن احتلال الكويت 1990 مزق بشدة الصف العربي، لكن النظام الإقليمي حافظ على الحد الأدنى من الوجود والاستمرارية وعرف بعض لحظات الصعود والتألق كما هو الشأن في حرب 1973 ودعم الانتفاضة الفلسطينية الثانية 2001.
بيد أن حرب العراق الأخيرة (2003) كرست نقطة تحول كبرى في توازنات النظام الإقليمي بدخول إيران لاعباً إقليمياً من داخل قلب المنظومة العربية في الوقت الذي عززت وجودها العسكري والسياسي في لبنان، قبل أن تحكم الطوق على الحزام الأمني الاستراتيجي العربي بتدخلها القوي في سوريا حيث صارت محدداً فاعلاً في معادلة الحكم وساحة الصراع السياسي العسكري، ومن بعد وجهت نظرها إلى بوابة الأمن القومي في الخليج والبحر الأحمر للتدخل في اليمن وتقويض الشرعية القائمة.
ومن هنا ندرك المسؤولية الكبرى التي اضطلع بها التحالف العربي في الساحة اليمنية الذي لم يكن تدخله مجرد واجب قومي لإنقاذ بلد عربي محوري تعرض للتجزئة والفتنة الأهلية، وإنما هو أكثر من ذلك خطوة نوعية في اتجاه إعادة بناء النظام الإقليمي العربي المتصدع والدفاع عن منظور الأمن القومي في مواجهة إحدى أخطر تهديداته.
ومع أن البلدان الخليجية أدت وتؤدي أدواراً هامة في المنظومة العربية، فإن هذه الأدوار تمحورت خلال العقود الماضية حول الجانب المالي عبر التكفل بالجانب الأوفر من الدعم الاقتصادي والعسكري لما عرف سابقاً ب«دول المواجهة» (مع إسرائيل) فضلاً عن مساعدة بقية البلدان العربية محدودة الموارد، إلا أن خروج العراق وسوريا من دائرة القوة الاستراتيجية العربية فرض على هذه البلدان تصدر المنظومة الإقليمية في اتجاهات ثلاث كبرى: دعم مصر في مسارها الانتقالي، ودعم الحل السياسي السلمي في البلدان العربية التي تشهد محنة التفكك والانهيار، والوقوف في مواجهة التدخل الخارجي المهدد للأمن القومي والمصالح العربية وعلى الخصوص التهديد الإيراني المتفاقم لأمن واستقرار المنطقة العربية.
من هذا المنظور، يندرج الموقف الخليجي (السعودي الإماراتي) الحاسم والشجاع بالتدخل العسكري المباشر في الساحة اليمنية لحماية الشرعية ولم شمل البلاد الممزقة والوقوف ضد الصراع الطائفي المفتعل، صوناً للمصالح العربية العليا وإحياءً لمفهوم الأمن القومي.
ما نتوقعه من العروبيين والقوميين المتشبثين بفكرة النظام العربي ومفهوم الأمن القومي هو الوقوف مع التحالف العربي في حربه في اليمن التي هي دون شك خطوة نوعية ملموسة في مسار إحياء النظام الإقليمي العربي وتنشيط مؤسساته واتفاقياته. ورحم الله شهداء الإمارات والسعودية الذين دفعوا دماءهم الزكية ثمناً سخياً لهذا الأمل الجديد.
السيد اباه