إن المتتبع للمشهد السياسي الموريتاني يلاحظ دون كبير عناء أنه مشهد مربك في شكله مرتبك في جوهره، ولئن كان هذا الارتباك يعزى في ظاهره إلى حالة الضباب الكثيف التي توشك أن تحجب عمق الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تكاد تعصف بالبلاد فإنه كذلك يمكن تفسيره بحالة التيه
التي تعيشه الطبقة السياسية في المولاة والمعارضة، حيث لا شك أن لكل منهما مظهر من مظاهر الضياع يعريه ماضيه السيء في احتضان الضعفاء والمساكين من أبناء هذا المجتمع وحاضره الأسوء في تجاهل المآسي الصحية التي عصفت بذلك المواطن في الأيام القليلة الماضية.
ولا شك أن المواطن اليوم بدأ يعزف عن المشهد السياسي والمتابعة الحثيثة له في ظل سوء الاحوال المعيشية له، والتي برزت للعلن وبشكل أكثر وضوحا في ظل الارتفاع المتزايد لأسعار المواد الإستهلاكية الرئيسية التي قابلته الدولة بالتصامم وقابلته المعارضة بالتجاهل، وهو ما زاد من عزيمة المواطن على تجاهل هذا المشهد والعزوف عن معتركه.
اليوم ونحن نتابع هذه الحالة الفريدة والاشكالية العميقة التي تستدعي المزيد من التحليل والدراسة لا يسعنا إلى أن نحاول فك طلاسمها بما تيسر من مقارنات ومقاربات كان مشهدنا السياسي مسرحا لها.
كانت السياسة في موريتانيا مهنة من لا مهنة له يعشيها المواطن في تفاصيل حياته اليومية وتنعكس على حياته الشخصية في مكان ممارسها. حيث يمكن له أن يقبض ثمن مكانته الاجتماعية مجزى من طرف الدولة حينما يكون لديه رصيد شعبي واسع أو تأثير اقتصادي مشهود أو قلما سيالا يصنع به الرأي ويوجه من خلاله الأفكار، ويمكن لمن لا يملك أيا من الصفات السابقة أن يكون بدوره سياسيا بارزا إلى ما كان له صلة قرابة برأس النظام أو أحد أصحاب الحظوة لديه.
هذه الأهمية التي يحظى به السياسي الموريتاني جعلت منزله ومكتبه قبلة لأصحاب المصالح والمطامع والفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم حيث يجد كل ما يحتاجه بشرط ضمان ولائه السياسي أو حركيته حين تنشط الساحة وتظهر الحاجة لصوته أو عمله الميداني. هذا المعطى هو الذي شكل وعي الناس وارتباطهم بالساحة حيث كل يرقب المشهد السياسي متوقعا أو متمنيا تعيين قريبا له أو بروز نجم لأحد مقربيه أو أحبائه مما سينعكس عليه بدوره. لأن أي قريب أو حبيب ظهر سيطال نواله الجميع وسيكون له حبل وصلا لا انقطاع له مع كل من له حاجة أو مطلب أو مجرد حلم.
كان هذا في سالف الأيام، أما اليوم فإن تعيين أي شخص في منصب مهم لا يسر صديقا ولا يغيظ عدوا لأنه مجرد تعيين لشخص منزوع الصلاحيات مكبل بمجموعة من العراقيل التي لا يراد منها إصلاح ما أفسد الدهر في ذلك المنصب، بقدر ما يراد منها إبراز عجز الشخص وتحطيم قدرته على التصرف في أسهل اختصاصه أو مهامه . وهذا ما جعل قبول البعض لتلك التعيينات ليس من باب جلب المصلحة بقدر ما هو درء لمفسدة قد يجرها رفضه أو اعتذاره عن ذلك المنصب.
الناشط السياسي هو الآخر لم يسلم من التأثر من ما طال صاحب المنصب بل إنه تعرض بدوره لكثير من التهميش في محيطه حيث أصبح من شبه المستحيل عليه التعبير عن موقف لا يساير الموقف الرسمي أو يعبر عنه ، وحين يفعل يطارد في مصادر رزقه ويضايق في محيطه الاجتماعي وتمنع عنه كثيرا من حقوقه الاقتصادية التي يخولها له الدستور والقانون .. وهنا تجدر الإشارة أنه لا يمكن أن نحمل رأس النظام المسؤولية السياسية عن كل هذه المسائل، لكن تبقى مسؤولية الأخلاقية ماثلة يجب التنبه لها وعدم نسيانها.
هذا الواقع هو السبب الرئيسي في ما وصل إليه مشهدنا السياسي من الارباك الظاهري والارتباك الباطني وسبب حالة العزوف التي تحدثنا عنها في سابق الأسطر.
ولا علاج لهذه الوضعية إلا بإعادة الاعتبار للمسؤول و للناشط السياسي مع الاحترام الكامل لكل منهما في حيزيه الوظيفي أو مكانته الاجتماعية الأمر الذي قد يرضي المواطن حتى يعود إلى حظيرة التأثر والتأثير في كهذا مشهد سياسي عجيب.