قلنا في بداية الثورة السورية على سبيل الاختيار بين السيء والأسوأ إنه لو كان لدينا في سوريا نظام كنظام حسني مبارك في مصر أو حتى نظام عمر البشير في السودان، لما قمنا بثورة. فعلى الرغم من أن البعض يضع الحكام العرب في سلة واحدة، على اعتبار أنهم كلهم مستبدون وطغاة، إلا أن الحقيقة ليس كذلك أبداً. من الظلم الشديد أن تقارن نظام حسني مبارك أو حتى نظام بن علي أو البشير بنظام الأسد. ولإثبات ذلك هناك عشرات الأمثلة التي تجعل من بقية الأنظمة العربية تبدو حملاناً وديعة، لا بل ديمقراطية، مقارنة بالنظام الفاشي في دمشق.
قبل اندلاع الربيع العربي بسنوات طوال، كنت من خلال عملي الإعلامي واحتكاكي بالسياسيين والنشطاء والإعلاميين العرب من السودان ومصر وتونس والمغرب والجزائر وغيرها، أقارن بين تلك الأنظمة والنظام السوري، فأجد نفسي بشكل أوتوماتيكي أتمنى لو أن حاكمنا في سوريا مثل عمر البشير أو العاهل الأردني. لا شك أن البعض سيقول لنا إننا كلنا في الهم عرب، وليس هناك فرق بين الحكام العرب إلا بدرجات بسيطة جداً. لكن يبقى ذلك تعميماً خاطئاً إذا ما أخضعناه للتجربة والبرهان.
في بدايات هذا القرن شهدنا كيف اختفى عشرات النشطاء في سوريا وراء القضبان لمجرد التقدم بمبادرات دبلوماسية جداً للإصلاح مستخدمين أرقى العبارات السياسية. لكن مع ذلك، لم يتحملهم نظام المخابرات، فألقى بهم فوراً في غياهب السجون ليتعرضوا إلى تعذيب لم يشهد له التاريخ مثيلاً، أو جعل بعضهم يفر إلى المنافي حفاظاً على رقبته وكرامته. أتذكر أيضاً أنني استضفت في بداية القرن البروفسور عارف دليلة في برنامج "الاتجاه المعاكس" مقابل مسؤول سوري، ولم يقل الرجل أي شيء يهدد النظام، أو يسيء له، مع ذلك كانت أجهزة الأمن بمختلف أنواعها الفاشية والوحشية في انتظاره في مطار دمشق عندما عاد من الدوحة. وكان كل فرع أمني يتسابق على اعتقاله والتباهي أمام الطاغية بقدرته على تركيع المعارضين. وفعلاً غاب الدكتور دليلة بعد تلك الحلقة لعشر سنين وراء القضبان لمجرد أنه شارك في برنامج تلفزيوني، وتحدث عن بعض الإصلاحات المطلوبة في سوريا. وفي مناسبة أخرى استضفت داعية سورياً ليس معارضاً، لكنه أمضى بعد عودته إلى دمشق شهوراً في السجن لأنه لم يدافع عن زوجة الرئيس عندما طالبه الضيف الآخر ساخراً بفرض الحجاب عليها. تصوروا هذا السبب السخيف لوضع داعية في السجن وإذاقته مختلف صنوف التعذيب. حصل فعلاً. وأتذكر أنني في بداية القرن الحالي قدمت حلقة استضفت فيها كاتباً سوريا انتقد أداء حزب البعث، وهاجم النظام، فأقام الأخير الدنيا ولم يقعدها، واشتكى للقاصي والداني. وتلقيت أنا شخصياً بالإضافة للضيف شتى أنواع التهديدات بسبب برنامج تلفزيوني. وكانت النتيجة أنني لم استطع الذهاب إلى سوريا بعد ذلك لسبع سنوات متتالية، ناهيك عن أن آصف شوكت منع حتى أخوتي المغتربين من زيارة بلدهم سوريا لفترة طويلة، حتى عاد لاحقاً أحد المسؤولين وصحح الخطأ مشكوراً.
في الوقت نفسه كنت أستضيف كتاباً ونشطاء سياسيين من بلدان عربية كثيرة كمصر والأردن والسودان والجزائر وغيرها. وكان هؤلاء يقولون ما لم يقله مالك في الخمر ضد حكومات بلدانهم، لكنني كنت أتفاجأ دائماً أنهم يعودون من الدوحة إلى بلدانهم دون أي اعتراض أو عقاب، لا بل كانوا يعودون للمشاركة في البرنامج بعد أسابيع. وأتذكر يوماً أنني خشيت كثيراً على ضيف من مصر قال كلاماً في غاية القسوة ضد الرئيس حسني مبارك، وكنت أتوقع أن يلقى عقاباً شديداً، لهذا انتظرت بفارغ الصبر كي أطمئن عليه. وفعلاً بعد وصول طائرته إلى القاهرة بساعات، اتصلت به فإذ به في منزله، فسألته: كيف كانت الرحلة، فقال: كل شيء تمام. وحدث الشيء نفسه مع ضيف سوداني خفت عليه كثيراً عندما عاد إلى الخرطوم، لكنني تفاجئت فيما بعد أنه لم يتعرض له أحد. ولو قال ضيف سوري واحد بالمائة مما كان يقوله المعارضون السودانيون والمصريون والأردنيون في البرنامج، لربما فرمته مخابراتنا الفاشية لحماً مفروماً.
وحدث ولا حرج عن الصحافة والإعلام. فلو قارنت الصحف السورية بالصحف المصرية أو السودانية، لوجدت أننا في سوريا بحاجة لسنوات ضوئية كي نصل إلى مستوى الإعلام السوداني أو المصري. فليس لدينا سوى ثلاث صحف تنشر نفس المحتوى، ولا يميزها عن بعضها البعض سوى أسمائها، بينما كنا نجد في السودان ومصر صحف معارضة حقيقية.
وقد ظهر الفرق بين سوريا وبين مصر وتونس في أجلى صوره بعد اندلاع الربيع العربي، فبينما قرر الرئيس التونسي التنحي بعد أسابيع قليلة دون أن يطلق النار على متظاهر واحد. وبينما تنحى الرئيس مبارك في مصر بعد ثمانية عشر يوماً فقط، ها هو النظام الأسدي الفاشي يقتل الشعب السوري الثائر للسنة الخامسة على التوالي عقاباً له على الثورة، ناهيك عن تدمير ثلاثة أرباع البلد وتهجير نصف السوريين وربما أكثر.
ألا يحق لنا بعد كل ذلك أن نصف حسني مبارك وزين العابدين بن علي بأنهما زعيمان وطنيان حقيقيان عندما نقارنهما ببشار الأسد الذي لم يترك قرداً في العالم إلا واستعان به على الشعب السوري. لكن ارجو ألا يعتقد البعض أنني اعتبر الأنظمة العربية ديمقراطية. لا أبداً. فلو كانت كذلك لما حدثت فيها ثورات. لكن الذي يجعلنا نوجه التحية لرئيسي مصر وتونس أنهما بالمقارنة مع بشار عال العال. ما الذي يجعلك تقبل بالمر سوى الأمر منه بعشرات المرات؟
تحية إلى مبارك وبن علي!