يوم 11 يناير 2013 بدأت فرنسا تدخلها العسكري المباشر في الشمال المالي، بعدها بعامين كانت على موعد مع الأحداث الدامية التي استهدف صحيفة "شارلي إيبدو" التي نشرت رسوما تسيء للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، واختارت فرنسا أن تكون المسيرة "الكبرى" المتضامنة معها في يوم 11 يناير 2015، وقبل أن يلملم العام 2015 أوراقه،
جاءت الأحداث الدامية ليلة البارحة، والتي أدت بحياه قرابة 130 فرنسي، وخلفت أكثر من 450 جريحا.
خلال هذه الفترة كان واضحا أن فرنسا بدأت تحث الخطا نحو مغادرة مقعدها الخلفي في دعم الحرب الكونية المعروفة بـ"الحرب على الإرهاب"، إلى مكان متقدم، إن لم يكن رأس الحربة، وهو تقدم سيقابله – بل قابله فعلا – تقدمها كذلك في سلم الأهداف لدى الحركات الإسلامية المسلحة، وكان اللافت هو حرقها للمراحل لتصبح الهدف الأول لهذه الأحداث الدامية.
بدى واضحا – بعيد أحداث شارلي إيبدو – أن ردة الفعل الفرنسية لم تستفد البتة من التجربة الأمريكية، حيث تصرفت – حينها - بانفعالية، وقسمت – على غرار أمريكا – العالم إلى قسمين؛ فهو إما يكون "شارلي" أو "كوليبالي"، ومن لم يقل إنه "شارلي" فهو تلقائيا كوليبالي، في إعادة – شبه حرفية – لمنطق الرئيس الأمريكي الأسبق - بعيد الحادي عشر من سبتمبر 2001 – "من لم يكن معنا، فهو ضدنا".
كان ملخص الدرس الأمريكي – بعد 14 سنة عليه – والذي تجاهلته فرنسا أن المراهنة على العنف وحده في مواجهة الحركات الجهادية رهان خاسر، بل إن نتائجه العسكية مضمونة، وأي مقارنة – بسيطة – لأوضاع العالم في العام 2001، وأوضاعه اليوم – وخصوصا في ما يتعلق بعدد ونوعية وحجم انتشار الحركات الجهادية – يدلل على هذه الخلاصة.
لقد وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها مرغمة على انسحاب بطعم الخسارة من العراق، ومن أفغانستان، وفي الأولى يسيطر تنظيم الدولة اليوم على مناطق واسعة منها، وفي الأخيرة تقف طالبان في موقف قوة، وهي تقلب خيارات التفاوض، والعروض المقدمة لها، وتنفذ من حين لآخر عمليات نوعية، وما زال الظواهري خليفة بن لادن في مكان ما أفغانستان، ومئات الأفراد يدينون له بالبيعة في عدة قارات من العالم.
كانت فرنسا – حينها كما هي اليوم - أمام امتحان تغليب منطق القوة، أو منطق العقل، وقد حسمت في المرحلة الأولى سريعا اختيار منطق القوة، بما يعنيه من اعتماد ردة الفعل السريعة، المنتشية بالتعاطف الدولي، وتوسيع دائرة الضحايا، وزيادة عددهم، والبحث عن أهداف جديدة وسهلة لإعادة الاعتبار لصورتها الأمنية المهزوزة، إن لم تكن ممزقة، وكان كلمة الرئيس الفرنسي أولاند قاطعة في هذا المجال حين قال: "رد فرنسا سيكون قاسيا".
ولو اعتمدت منطق العقل لكان أجدى لها وللعالم، وذلك بتحديد الأسباب الحقيقية لهذه الأحداث، ومعالجة هذه الأسباب.
كما لم تواكب فرنسا – على ما يبدو - حجم التطور في العمليات التي تنفذها هذه الجماعات، والتي خرجت بالكلية عن نمطيتها المعروفة، فنحن اليوم أمام ما يمكن أن يسمى بـ"نشطاء ما بعد شارلي إيبدو"، أو العمليات التي لا تخضع لنمط محدد، وهو ما يجعل من الصعب التنبؤ بها، أو اكتشافها قبل انطلاقة تنفيذها.
وخلافا لمنفذي هجوم "شارلي إيبدو"، والتي كانت مصممة وموجهة بشكل دقيق إلى إدارة وعمال هذه الصحيفة، بدت عملية يوم أمس كانت لو كانت موجهة للحكومة وللرأي العام الفرنسي، حيث قصدت لإسقاط أكبر كم من الضحايا، قتلى وجرحى، وذلك للفت الانتباه إلى ضحايا آخرين في جانب من آخر من العالم، صرح أحد المهاجمين في قاعة باتاكالون للفنون – حسب وسائل الإعلام الفرنسية – بأنهم في العراق وفي سوريا.
لقد نجح تنظيم الدولة للمرة الثانية في نقل المعركة إلى عقر الدار الفرنسية، وهو التحدي الذي كانت الدول الغربية عموما تعمل على مواجهته بإبعاد الخطر إلى سوح أخرى، وإبقاء مسرح المعارك في مكان لا يصل دخانه – أحرى نيرانه – إلى العواصم الغربية.
وكان تحدي الجماعات الجهادية – منذ تهديد بن لادن إلى اليوم – هو نقل المعركة إلى داخل الدول الغربية، والقيام بعمليات تلفت انتباه الرأي العام في هذه الدول إلى الحرائق وعمليات القتل التي تجري في الشق الآخر من العالم.
لقد تفرجت فرنسا – والغرب عموما – على الحرائق في العالم الإسلامي، كما لم تكن بعيدا عن صناعة بعض هذه الحرائق، كما تغاضت – بل دعمت – الدكتاتوريات الجاثمة على صدور ملايين الشباب في العالم العربي، فكان لا بد لألسنة اللهب المشتعلة جراء ذلك أن تصلهم – ولو بعد حين - وكان تطوير وسائل التجنيد، وتبسيط إجراءات الانتماء وسيلة الجماعات الجهادية لذلك.
فلم يعد من الضروري أن يصل "العضو" إلى مكان التدريب في أفغانستان أو العراق، أو يلتقي أحد القيادات، وإنما غدت الأشرطة، ووسائط الاتصال كافية لخلق خلايا هناك أو هناك يتم تحريكها لتنفيذ هذا النوع من العمليات في أوقات محددة، ولأهداف محددة، إنها قنابل موقوتة تماثل تلك التي تلقى في سوريا والعراق ومالي.
كما لم يعد من الضروري الانتماء لجماعة أو حركة واحدة، وإنما يكفي أن تتوفر قواسم مشتركة – كما وقع بين الأخوين اكواشي وكوليبالي – تضمن تقارب المنهج، واتحاد الهدف، حتى لو تعددت القيادات.
لقد شكلت هذه العمليات ضربة في الصميم للأمن الفرنسي، فالاستخبارات الفرنسية المستنفرة – قبيل أسابيع قليلة من مؤتمر عالمي حول المناخ، وفي وقت تجري فيه مباراة بين دولتين أوربيتين بحضور الرئيس الفرنسي – تلاعب بها ثمانية شبان – لم تكشف حتى الآن سوى هوية واحد منهم وهو فرنسي – ونفذوا عملياتهم بالطريقة التي حددوها، وشهد لذلك تقرير الأمني الفرنسي، حيث تحدث عن توزعهم إلى ثلاث مجموعات، نفذت 6 عمليات في باريس، وكانت نهاية أغلبهم بالأحزمة الناسفة التي يحملها وليس برصاص الشرطة الفرنسية.
لقد فعلت تقنية "التخلل والتسلل" والتي جاءت ضمن آخر خطة اعتمدها زعيم القاعدة أسامة بن لادن قبيل مقتله فعلتها في فرنسا، وتلخص هذه الخطة طريقة عمل القاعدة – وقد استفادت منها بقية التنظيمات – وتقتضي الخطة بإبقاء الأشخاص الذي سينفذون عمليات في الدول الغربية داخل هذه الدول إن اختيروا منها أصلا، أو إبقائهم في مكان محايد بعيدا عن أماكن النشاط التقليدي للقاعدة.
وزادت وسائط التواصل من إمكانية التجنيد من داخل الجاليات الإسلامية، وهو ما وفر لخطة "التخلل والتسلل" فرص نجاح غير طبيعية.
اليوم وفرنسا تضمد جراحها، وهي لما تفق بعد من هول الصدمة، تؤكد كل المؤشرات أن انتقامها لكبريائها المهدورة سيدفعها لمزيد من التورط في سوريا وليبيا ومالي، وهو ما قد يحقق لها انتصارات عسكرية تكتيكية سريعة، لكنها ستجد نفسها بعد سنوات في مرحلة الولايات المتحدة الأمريكية المترددة إزاء أي تدخل، والمتوجسة من بدأ أي معركة لا تعرف متى ستنتهي ولا أين، والمكتفية – في ظل التحالف الدولي الحالي – بشن غارات خاطفة هنا أو هناك.
/ أحمد محمد المصطفى..