كأن روح الشاعر السوري الراحل نزار قباني تطل على مسرح الباتاكلان ، لتنشد مهدهدة و معزية باريس في مصابها : "... وباريس بين المدائن أنثى!".
من حاول اغتيال جمال باريس عندما صبغها بالدم في ظلمة الليل، و أزهق أرواح 129 شخصا في عدة هجمات استهدفت أماكنا كانت بشكل عام ثقافية ورياضية و مدنية...،
من فعل ذلك لم يأت من سوريا بلد الجمال و الشعر كما تشير أدلة الاتهام الجنائية الفرنسية...، لا...، لقد أتى من أقرب مكان..، لقد قفز متجاوزا الزمان و المكان من قلب فضاء سيبري يتيح الاختفاء في مواقع تواصله الاجتماعية.
لعل داعش وأخواتها ذرية لمواقع التواصل الاجتماعي تلك ..؟!..، ففي عالم مارك الأزرق يبدو التفاعل أحيانا حادا شاحبا كروح وردة بلاستيكية!.
ذلك بالضبط ما حدث معي منذ بضعة أشهر فقط (14 يونيو الماضي تحديدا...، إنه تاريخ مميز كما سنرى)، إذ دهمني تعليق خارج الموضوع الذي كان بين نشرته حينئذ ، يتحدث التعليق عن ضرورة الاحتفاء بذلك اليوم باعتباره شهد قتل سليمان الحلبي للقائد الفرنسي الغازي لمصر الجنرال كليبر.
هل نحن أمة تمجد الموت أكثر مما تحتفي بالحياة؟، يبدو أن ذلك هو السؤال الذي توضع في إطاره وسائل الميديا ، ومواقع التواصل الاجتماعي في موقع المتهم.
لست أحاكم فعل سليمان الحلبي رحمه الله بعد كل هذه القرون، إنما لفتت انتباهي تلك الصور العنيفة التي باتت تتسلل إلى واقعنا الحالي، محاولة أن تربط الماضي في أسر الحاضر، ربما لكي تغتال المستقبل بنفس الذهنية، وارتباط تلك الذهنية بروح الثأر أكثر من روح المقاومة أو الجهاد.
يمكن تفهم دور رد الفعل العاطفي على الصور النمطية السيئة التي تنتجها السينما الأمريكية و الغربية أساسا للمسلم، إن المتطرف يتأمل الصورة، يتألم لها، ثم يقرر أن يلتحف بحزامه الناسف لينتقم من الحياة التي أوجدته في نفس الكوكب مع أولئك الذين شوهوا صورته.
يمكن بنفس الطريقة أيضا تفهم ذلك الإحباط لدى البعض من بعض تناقضات الحداثة وشكلها الديمقراطي الذي صوره البعض ب"التاريخي" بعد انهيار القطب السوفياتي، إنه إحباط ساهم في تفعيل طرد مفخخ مشكل من مادة شديدة الانفجار هي : الاحتفاء بموت الأمل.
و لا يمكن للمرء أن يتنكر لخيار مقاومة المحتل، لا يمكن لأي عاقل أن يرضى بأن يتحول وطنه إلى قطعة شوكولا تطحنها أسنان غاز، لكن ألا يمكن أن تكون المقاومة أكثر سعيا للحياة بكرامة، و لزرع بسمة جميلة على وجه الأرض، أكثر من سعيها للتباهي بأبشع صور الموت و تدمير الأعداء؟، ألا يمكنها أن تكون فعلا يتجاوز مفهوم عقلية الثأر الضيقة المحدودة؟، وما قيمة أن تقتل نفسا أو نفسين أو ألف نفس في حين أنك لا تغير عندئذ واقع الظلم الممارس عليك، بل تعمق صورته الإعلامية المصنوعة خصيصا كي تلصق على صدرك أينما يممت وجهك؟.
في ثقافتنا الإسلامية وخلف الألف ليلة التي تفصلنا عن عصر النبوة و الصحابة الراشدين، تنتفي هذه الإشكاليات وتذوب أمام قوة الواقع الساطع هناك، عندما يتبين أن إرادة الحياة و البناء، كانت دوما سابقة على الرغبة في الموت، حتى برغم روعة وجمال الاستشهاد من أجل تلك القيم النبيلة و الحقة و الصادقة، كان الترتيب كالآتي: النصر أو الشهادة، وفي غضون تلك الثنائية كانت قيم رائعة تحدد التعامل مع العدو في مختلف حالاته.
أما هنا في عصرنا وعلى فضاء دولة الخلافة الافتراضية، فمن الواضح أن التواصل كان فعالا مع أي شيئ ما عدا قيم الأولين المحبة للحياة.
الآن و دون عناء يمكن تخيل صورة الداعشي حين يبدأ في تنفيذ مشروعه المدمر،وهو يكتب قبل ذلك على صفحته على الفيس بوك، وبمساعدة تقنية من مارك إنه: يشعر بالرغبة في القتل!
المأزق الذي نواجهه الآن في ظل سيادة التثقيف عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وما تنتجه الميديا من انطباعات سطحية، هو ذلك التحول الذي يجعل شابا كصاحبي الآنف الذكر، يركز فقط على الاحتفاء بتاريخ قتل الحلبي للفرنسي، دون أن يقرن ذلك باحتفاء آخر بآلاف الصور الحية التي ناضلت و قاتلت كي تضمن الحياة لها و للآخرين!
يستدعي التأمل هنا فيلما أمريكيا أنتج سنة 2008 بعنوان " الخائن"، وهوعن قصة شاب مسلم أمريكي من أصل سوداني، يقرر أن يتعامل مع الاستخبارات الأمريكية، لاختراق جماعة متطرفة، ثم يحاول مع "جماعته" تجنيد بعض الشباب الفرنسي القابع خلف هوامش الفقر و التمييز العنصري ضد أصوله العربية وديانته المسلمة، لينفذوا عمليات استهداف للمصالح الأمريكية في مرسيليا و باريس،....، ثم يقرر الشاب الأمريكي المسلم و خبير المتفجرات في نهاية الفيلم أن لا يعمل مع الأف بي آي، لأن نفسيته أرهقت جدا من مشهد عمليات التفجير التي ساهم بها، وقتلت أمريكيين، وتلك التي اضطر فيها لقتل عناصر تلك الجماعة المتطرفة: إن الشاب الأمريكي المسلم يرى أن رسالته في الحياة مناقضة للقتل حتى ولو كان من أجل تلك الحياة ، من زرع في نفس ذلك الشاب الذي تربى بعيدا عن أصوله العربية و المسلمة تلك الذهنية؟...من أين استقاها؟...، إنها أسئلة توجد خارج الفيلم، إنها أسئلتنا نحن، إنها هي وحدها التي ستحدد متى وأين يمكن أن نبني من ماضينا القيم صورا للحياة بكرامة و للموت بشرف و بعدل في موتنا.