طيلة 26 عاما في اليوم ذاته، يجلس الإخوة في منزلهم بمنطقة المهندسين، حيث صعدت روح أبيهم إلى بارئها، في حلقة يحفها السكون، يُمسك كلُ منهم بمصحف، يرتل ما تيسر من أجزاءه، يشاركهم في بعض الأحيان أفرادا من العائلة، يحرصون على ختم الكتاب الكريم؛ يؤكدون بذلك احتفاظهم بوصية والدهم أن لا يهجروا القرءان، ويحيون ذكرى وفاته بإهداء الختمة إلى روحه، التي سار بعضهم على نهجها، فأصبح أحدهم مقرئا يحذو حذو أبيه عبد الباسط عبد الصمد أحد كبار القراء في العالم الإسلامي.
تلاوة القرءان لم تكن الوصية الوحيدة التي نفذها الأبناء، بل البقاء معا نصيحة أخرى لازمتهم بعد وفاته، ففي تجمعهم هذا ذكرى تحمل التفافهم اليومي حول مائدة واحدة، كان الشيخ حريصا على التواجد بها في ميعاد الغذاء، مهما كان حجم انشغاله، راويا لهم ما مر به في اليوم ''كان أب ملتزم بتواجده في البيت دائما'' هكذا عايشه الابن، طارق عبد الباسط عبد الصمد، المقرئ خلفا لأبيه.
بيت القرءان
ذرية بعضها من بعض، يحملون كتاب الله في صدورهم، حتى أطلق على بيت العائلة في أرمنت –قنا- بيت القرآن، لكن لم يتخذ الجميع مسار القراءة وحسن الصوت، فالجد كان مأذون، والأخوات الثلاث للشيخ ''عبد الباسط'' درسوا بالأزهر، غير أنه الوحيد الذي طلب من أبيه أن يسلك الطريق ليكون مقرئا، وكما فعل ''عبد الصمد'' الجد، تبعه الابن مع أولاده ''مكنش بيجبرنا على حاجة'' بفخر يتحدث طارق'' الذي، لم يأت سيره على نهج أبيه إلا طواعية، لم يكن يحرص الشيخ الأب غير أن يحفظ أبناءه القرآن، يأتي لهم بالحفظة، الذين يكونوا عوضا عن غيابه ''كان يجيلنا شيخ العصر يقعدنا كلنا ويسمعنا، ونكتب على الصاج زي ما هو اتعلم عشان بيحسن الخط''، يراهم الأب في بعض الأحيان يقرأون، ربما في نفسه علم أن ''طارق'' ورث حسن الصوت، هو وأخيه الصغير ''ياسر''، الذي كان يعمل بالسياحة ثم تفرغ لقراءة القرآن، ودخل النقابة.
عبد الباسط ''الابن''
اعتادت أرجاء منزل الشيخ ''عبد الباسط'' بالمهندسين صوته العذب، وغيره من المشايخ الذين يستمع إليهم، تطرب أذنه بالشيخ ''رفعت''، الذي كان يقطع قرابة 5 كيلو متر وهو صغير، حتى يصل للمقهى المتواجد به الراديو، عبد الفتاح الشعشاعي وغيرهم، حتى اليوم الذي جاء فيه صوت ابنه قارئا، ليتأكد بزوغ موهبة جديدة في ''بيت القرءان''، كان ''طارق'' في الخامسة عشر من عمره، حينما يذهب إلى مسجد مصطفى محمود الكائن قرب منزلهم، وعندما يحين الأذان يطالبه الشيخ في بعض الأحيان أن يؤذن، وينطلق صوته بين الصلوات، يتلو ما تيسر من القرآن، فيستمع ''عبد الباسط'' الأب في المنزل إلى خليفته عبر ميكروفون المسجد، لترتسم ابتسامة على محياه.
لم يكن ''طارق'' قد اكمل عامه التاسع عشر، حتى خاض امتحان هو الأصعب من نوعه، عندما ذهب مع والده إلى مركز المطاعنة بقنا، ولذلك المكان في قلب الشيخ الراحل أهمية، إذ حفظ فيه القرءان بقراءاته العشر على يد أستاذه الشيخ محمد سليم حمادة، حشود ضخمة ترنو على عشرة آلاف شخص تستمع إلى الشيخ بإجلال، أتوا من المراكز والقرى وحتى المحافظات المجاورة ليستمعوا له، بعد انتهاءه قال له أحد الحضور ''عرفنا إن في أحد ولادك بيقرأ يا شيخنا.. نحب نسمعه''، كان طارق يجلس ومعه أخيه الأكبر، غير أن الأب اختاره قائلا ''توكل على الله يا طارق''.
آيات من سورة فُصلت تلاها الفتى، بصوت مهتز في البداية ثم متمكن فيما بعد، أخذ يقرأ قرابة ربع ساعة للمرة الأولى أمام والده وذلك الجمع، غير أنه منذ تلك اللحظة تغيرت حياته، حينما نزل من المنبر تبسم الوالد مثنيا على الأداء، قائلا ''الله يفتح عليك.. حاول تلتحق بمعهد القراءات عشان تبقى الموهبة مع التجويد والحفظ''، وكانت تلك أول مرة يوجه بها الشيخ ابنه، فيما يتعلق بمستقبله، وقد كان؛ التحق الابن البار بالمعهد، رغم أنه درس الحقوق، ثم حصل على بكالوريوس من الشرطة، إلا أن القراءة بقت معه، حتى تفرغ لها منذ عام واحد، تاركا وظيفته كشرطي في هيئة التنظيم والإدارة.
منذ أبصر الابن السابع أبيه، كان له طقوس حافظ عليها طوال سنين حياته، ما إن تدق الساعة التاسعة مساء حتى ينام، ليستيقظ في الثانية أو الثالثة صباحا، يتوضأ، يدلف غرفته، يغلق بابه ويبدأ بقراءة القرءان حتى آذان الفجر، يُصلي، ثم يضع رأسه على الوسادة لساعات قبل أن يحين ميعاد الإفطار مع الأبناء، ذاهبا عقب ذلك إلى الإذاعة المصرية أو وزارة الأوقاف، نظام لم تتقيد به الأسرة إلا فيما يتعلق بتجمعهم على مائدة الطعام.
عبد الباسط ''الوالد''
الصداقة كانت عنوان تعامل الشيخ وأبناءه، ينصحهم إلى الصواب بهدوء، إلا في مواقف قليلة يترتب عليها ضرر لأحدهم؛ يذكر الابن حين كان عمره لا يتجاوز سبع سنوات، إذ سافروا مع الوالد إلى الإسكندرية لحضور أحد حفلاته، وأثناء اليوم استأذنوه للذهاب إلى الشاطئ؛ سمح لهم على شرط عدم نزول المياه ''لأن الراية السوداء كانت مرفوعة''، غير أن الطفولة دفعتهم لمخالفة القواعد، كان بصحبة أخيه وصديق لهم، فلما علم الشيخ انقلب من الأب الهادئ إلى الغاضب لعدم إطاعتهم الأمر.
أجندة كُتبت فيها أحداث مختلفة بخط نقيب القراء الراحل، سجل فيه زياراته خارج مصر وداخلها أحيانا، يحتفظ ''طارق'' بها حتى الآن، يعرف ما فيها لأن الوالد لم يمنع عنهم سرا طوال حياته، وكما عاملهم بالحسنى فقد اتبع نفس النهج مع المقربين والمحبين، كان يلتقي بالشيوخ والقراء الآخرين في منزله، وكذلك الصحفيين، فلم يغلق الشيخ بابه في وجه أحد قط.
الشيخ في السراء والضراء
طارق كان الأقرب لأبيه بين 11 أخ، مات عنه وعمره 22 عاما ''لكني كنت ملازمه في أوقات كتير''، للصعيد مع ''طارق'' ووالده أيام، ففضلا عن نشأة الشيخ فيها، إلا أن الابن تعود مرافقته إلى الحفلات هناك، يعرف منذ صغره أن سهرات الصعيد مختلفة عن القاهرة؛ فهناك يبدأ التجهيز لليلة قبلها بشهرين أو أكثر، حتى أن المواشي يتم تربيتها قبلها بأشهر طويلة لتُذبح يومها على شرف الحاضرين، تكون الحفلة عادة بمدن الصعيد داخل أرض زراعية يتم حرث فدان منها لتمهيد وضع المقاعد عليه، ويُبنى منبر أعلى من مستوى الأرض ليجلس الشيخ عليه، يذكر طارق تلك التفاصيل لأنها عادة مستمرة في الصعيد حتى الآن ''سهرات القرءان كانت هي ترفيههم الوحيد عشان كدة كانوا بيحضرولها'' على حد قوله.
وفد الشيخ ''عبد الباسط عبد الصمد'' إلى القاهرة عام 1951، عشقه للقرآن الكريم جعله يرغب في الظهور بما يليق بكتاب الله، أراد أن يغير تلك الصورة المأخوذة عن قارئ القرآن ويتداولها التليفزيون والصحافة، بأنه رجل فقير يستحق الصدقة، لذلك كان حريص على ارتداء أفضل الثياب، استقلال سيارة خاصة وليس المواصلات، يبيت في أبهى الفنادق أثناء سفر ''وكان يشترط لو مسافر بالطيارة يركب درجة أولى''، لأجل هذا نالته حملة مهاجمة فترة الخمسينات، إلى حد نعته بـ''عبد الباسط براندو''، الذي يفسره الابن ''لوسامته وأناقته قالوا عليه كده أيام موسى صبري''.
كان نقيب القراء يحزن لمثل هذه الكتابات والأوصاف التي تطوله ''كان يقول يعني يشبهوا قارئ القرآن بممثل أجنبي''، غير أنه ما أبدى ذلك في أي من الحوارات الصحفية أو اللقاءات التي تجرى معه، كان يجيب في حدود السؤال، فيما يظل يردد حينما تأتيه ذلك التهكم ''يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين''.
المؤمن مصاب
هادئ الطباع، لا يعرف التوتر طريقه إليه، يثبت القلب بآيات الذكر الحكيم، وإن بدا على ملامحه التأثر، ما وقعت واقعة إلا سمعه الابن يردد ''قدر الله وما شاء فعل''، في أهون المواقف، وأشدها لا يتململ، يسرد عليهم الحدث في سكون شديد، كأنها ''قصة عادية''، كذلك كان الحال في السادس من أكتوبر 1981، حينما اختاره الرئيس السادات ليستهل بقراءته الاحتفال بنصر أكتوبر، كان الشيخ مرتبطا باحتفال في الإسكندرية، ورغم محاولته الاعتذار لسبق التزامه قائلا ''الحفل 3 ساعات وأنا راجل بتاع قرآن مليش في الاستعراضات العسكرية''، لكن مع إلحاح المتصل من الرئاسة، والتعهد له بالانصراف بعد إتمامه القراءة، استحى القارئ الجليل وقبل.
في السابعة أمام منزله بالعجوزة كانت السيارة بانتظاره، ذهب مبكرا إلى المنصة، وبعد انقضاء قراءته، أراد أن يرحل كما اتفق لكن الضابط المصاحب له من الرئاسة أخبره أنه لا مفر من البقاء حتى انتهاء الحفل، الحرس الجمهوري المؤمن لبوابات المكان يمنع خروج أو دخول أي فرد، بأقصى يمين الصف الجالس به الرئيس السادات ونائبه حسني مبارك، وبقية الحضور جلس الشيخ ''عبد الباسط''، متناولا بيده فنجان من القهوة، دقائق وانقلب الحدث، انبطح الجميع أرضا مع إطلاق الرصاص، وبدأ هرج الفرار، تمالك الشيخ أعصابه، خرج مع الناجين من الدرج المتواجد جانب المقاعد، قابله وزير الصحة، الذي أقله معه حيث صديق له بمنطقة العتبة، حينها كان ''طارق'' يستمع للاحتفال على الراديو، يذكر الارتباك الذي أصابه مع انقطاع البث لقراءة نبأ عاجل ''محاولة اغتيال الرئيس السادات ونقله إلى المستشفى العسكري بالمعادي''، فهرع إلى المنزل حيث كان خارجه، انتظر الجميع والقلق يقتلهم، حتى رن هاتف المنزل، الشيخ يتحدث، كلمات بسيطة لطمأنتهم عليه، تبعها إخبار ''طارق'' أن يجلب له ملابس وحقيبة كي يسافر إلى الإسكندرية.
ذهب صاحب الحنجرة الذهبية لإحياء احتفال الإسكندرية، رغم الحدث الجلل، لم يكن يتوانى عن تلبية قراءة القرآن، والالتزام بما اتفق عليه، ما كان ذلك الحدث الأخير، الذي استقبله ''طارق''، وكاد والده أن يفقد به حياته، بعد قرابة خمسة أعوام وتحديدا عام 1986، على طريق الصعيد، أثناء ذهابه للقراءة باحتفال بمدينة إسنا بمحافظة الأقصر، اصطدم ''ميكروباص'' مع سيارته الخاصة ''كان بيقعد جنب السواق ويرفض يقعد ورا'' يقولها خليفة الشيخ ''عبد الباسط في القراءة'' مفسرا سبب تتطاير الزجاج على وجهه، ويبتسم الابن حينما يتذكر رد فعل والده بعد أن أخبره الطبيب بمستشفى الأقصر، أثناء اسعافه لجرح فوق جفنه ''مفيش بنج''، فلم يبال قائلا له ''يا عم خيط على كده'' فيما أخذ يسبح ويذكر الله طيلة وقت فعله هذا.
أمنية و''جود''
كان الشيخ زهيدا في أمانيه، لم يرد سوى إنهاء تسجيل القرءان مجودًا ومرتلاً بالقراءات العشر، غير أن العمر لم يمهله، لكنه سجله بقراءة حفص عن عاصم مجودا ومرتلا وكذلك بقراءة ورش عن نافع المدني بدولة المغرب، ورغم ذلك فقد جاد ربه عليه، فكان أول قارئ يذهب إلى جنوب أفريقيا عام 1966، واسلم على يده الكثير ممن سمع صوته، وكذلك أول شيخ يتلو سورة ''التكوير'' متابعا آياتها السبع الأولى دون توقف قرابة دقيقة ونصف حسب قول ''عبد الباسط'' الابن.
نهاية المشوار
لم يكن ''طارق'' الابن الكبير للشيخ ''عبد الباسط'' لكن ملازمته كثيرا مكنته أن يكون بهذا القدر؛ 18 يوم لازم فيها أبيه بلندن، خلال فترة العلاج من مرض التهاب الكبد الوبائي، كان المرض قد استفحل بجسده في تلك الآونة ''لكن الذكر كان بيخفف عنه الألم'' كما يقول الابن، ظل على تلك الحالة حتى شعر بدنو الأجل، فطلب منه العودة إلى مصر ''قال لي أنا حاسس باقتراب الأجل.. حاول تسرع حجز الطيران عشان نرجع'' يحكي ''عبد الباسط'' الابن عن أواخر أيام أحد كبار القراء، الذي لم يتوقف رغم مرضه عن تلبية واجب القراءة، فكانت آخر تلاوة له قبل أسبوعين من وفاته في مسجد الحسين بصلاة الجمعة خلفا للشيخ البنا، الذي فارق الحياة قبله بثلاث سنوات.
عصر الأربعاء 30 نوفمبر 1988، في ليلة شتوية بمنطقة المهندسين، على سريره بين أبناءه الـ11 وزوجته، رجعت نفس نقيب قراء القرآن الكريم إلى ربها، ''إن شاء الله'' كلمة متكررة في حديث الوالد، ومع تكرارها كان يوصى الأبناء بالتكاتف والتراحم فيما بينهم، تقوى الله وبر والدتهم، وحفظ القرآن ليحفظهم ''لأنه سبب الشهرة والحياة اللي كنت فيها''، تركهم موقنا أن حفظة القرآن هم أهل الله وخاصته، ودفن جوار مسجد الإمام الشافعي، المكان الذي اختاره منذ وفد إلى القاهرة '' بعد ما اتعين فيه اختار السكن والمدفن''، ليرثه من بعده أبناء يرتلون بروح أبيهم آيات القرآن في السر والعلانية.