على العكس من عديد المستعمرات الفرنسية فقد انطلقت مقارعة الاستعمار الفرنسي في موريتانيا في وقت مبكر و بشكل مباشر حالما تبينت لأول وهلة نوايا المحتل و عندما خطا خطواته التمهيدية المتمثلة عمليا في وضع قواعد حضوره بإقامة وكالات تجارية على ضفة النهر و من قبل التمدد الذي
تلا في العمق مؤثرا الحيلة في ذلك فكان يرسل مخبرين متخفين في زي "البظان" و متأبطين مصاحف و كتب فقهية موهمين بالتدين أو امتهان التعليم أو تحصيله كما هو حال المستكشف رينيه كاييه René Caillé المعروف بـ"ولد كيجه" الذي تعلم العربية و تضلع في علوم الدين الإسلامي ما بين أغسطس من العام 1824 إلى غاية مايو 1825 الذي تروي عنه الذاكرة الجمعية أنه قال قولة كان لها ما بعدها طالبا فيها معشر الموريتانيين إعادة كل صلواتهم التي أمهم خلالها و ذلك بعيد خروجه من كل البلاد و وصوله إلى السنغال و من ثم السيرا ليون Sierra Leone حيث كان عازما على الانطلاق في مغامرة جديدة لاكتشاف مدينة "الذهب" كما كان يشاع يومها عن تمبكتو Tombouctou الأسطورية و الواقعة ما بعد نهر النيجر و تحديدا في دولة مالي الحالية ـ و ارتدى لذلك مرة أخرى قناع الدين و قد تزود من علومه لنجاح المغامرة في أرض كان الإسلام منتشرا في كل ربوعها.
و لما أن هذه المقاومة التي جاءت ردة فعل تلقائية و عفوية على جسم دخيل يحمل نوايا المساس بالمعتقد و يطمح إلى غزو ثقافي و فكري و حضاري، فإن الفترة الأولى لهذا التصدي شهدت توحدا غير مسبوق لكل الجهات على عموم التراب و بين أهل القلم و السلاح و ما بينهما من الشرائح التي تشكل متن المجتمع إذ ذاك في بنيته المجتمعية الطبقية و الوظيفية؛ توحد حد من طغيان الخلافات التي كانت قائمة بين بعض الإمارات و بعضها حول تقاسم الحكم و النفوذ، و بين المشايخ الروحية القائمة بمختلف الطرق و إن توحد المذهب. و لكن تفوق المستعمر بعتاده الوفير و سلاحه المتطور و بحسن تسييره و دقة إدارته للشؤون التي يديرها بمهارات عالية و قدرات علمية دقيقة و بانضباط لم يعهده الموريتانيون مطلقا فعل فعله في عقول الكثيرين ممن رأوا فيه فرصة استقرار أكثر حول مقومات حياة كانت شبه غائبة أثرت سلببا في سلوكهم، بل و قال بعضهم باستتباب أمن كان مشوبا بالخلافات المزمنة في ظل حكم نظام طبقي قاس و جائر في جوانب منه كثيرة سببت اختلالا مجتمعيا كبيرا كرس بدوه الظلم و التهميش و ممارسة الدونية.
و بالطبع فإن هذا التحول العميق للنظرة المهادنة عند البعض إلى الاستعمار بحجة لم يغب عنها الصواب إلى مستوى حددته فتاوى العلماء حفاظا على أمن أتباعهم و ممتلكات رعاياهم، لم يغير في مسار المقاومة المنطلقة شرعا و إيمانا من وجوب جهاد الغزاة أعداء الملة، مقاومة ظلت تقارعه و تقدم الشهداء الأبرار من الأبطال المغاوير أمراء و علماء و من كل الشرائح و المكونات حتى آخر طلقة من بنادقهم العتيقة و في آخر ثغر تواجدوا فيه و رفعوا صيحات الله أكبر، حيى على الجهاد.
أما اليوم و قد سرت في جسم الأمة قشعريرة الاعتداد بأمجاد الماضي و بدأت تلتفت أفرادها الغيورين إلى حقبة المقاومة نفضا للغبار عن مكنونها و محاولة لإرساء كتابة مستحقة لأيامها و تخليدا مفروضا لأبطالها، فقد اعترت تلك الصحوة بل و لحقت بها عقلية "السيبة" التي لا تغادر صغيرة و لا كبيرة إلا تلطخها بكل سلبياتها. و سرعان ما تعثرت هذه الإرادة عند البعض و اصطدمت بجدار سميك من المغالطات و التحريف و التعتيم و التهويل و التغييب و "الانكار" في السياقات المعهودة لـ"السيبة" و منها "الكزرة" و "التحايل" و "الشطب" و "الزيادة" و "النكاية" و "الصدام" و الاصطفاف وراء اعتبارات العشائرية و التوازنات القبلية دون الوطنية الجامعة.
و بهذا فقد ضُربت حقبةُ "المقاومة" في الصميم و ارتفعت بقوة أصواتُ المنكرين لتاريخها و المقللين من شأنها، أصواتٌ في حدتها و ولائها المطلق لمشروع المسخ الحضاري الملتحف دثار مهمة التحضر و المدنية الذين جاء يحملهما الاستعمار؛ أصوات نشاز ضَربت أيضا عرض الحائط بتيار مهادنة الاستعمار الذي رأته من منظورها حقيقة فَرضَت نفسها و لكنها مُساعدِة في ذلك المنعطف الذي حصل فيه انفلات أمني أضر بالمستضعفين و المهمشين حتى باتت حمايتهم و ممتلكاتهم مسوغا لفتوى طلب العون من المستعمر على إعادة بعض أمن تسببت التحولات المتلاحقة و ضعف بعض الإمارات لأسباب موضوعية و خارجة عن إرادتها، جدت من مزاولة دورها الذي كان مكينا و صمام أمان و حاميا للرعية في حيزها الترابي. و إنه التيار الذي لا يرى بكل هذا إلا أن البلد ولد مع الاستعمار و تحول إلى دولة مركزية تتبع نهج المواطنة و المساواة، و أنه بقدر ما لم تكن المهادنة قد حصلت إلا من باب الاضطرار و الحرص على مصالح ضيقة استطاع المستعمر تقديمها، فإن المقاومة لم توجد هي كذلك إلا من باب حرص قادتها على الحفاظ على قوالب الماضي التي كانوا فيها على رأس كياناتهم من دون منازع.
و على الرغم من كل هذا فإن هذا التيار المشكك لا يلقى التأييد الكبير رغم ما يفصح عنه من عداء لما كان قائما من طبقية المجتمع المفترية على الدين في مسألة أفضلية البعض على البعض و تراتبية مثيرة حتى في الدونية، و إن استطاع على الأقل أن يحدث شرخا غائرا في جسم الكيان الذي يبحث عن منطلقات و ثوابت تؤمن أسباب القيام و تخلق محفزات المضي إلى المستقبل بثبات مفتقد فإنه لم يستطع أن ينتزع من عقول المواطنين حبهم المقاومة التي تمنحهم عزة نفس يفتقرون إليها و عزما على الاستعداد للدفاع عن كيانهم الذي تعصف به الأزمات السياسية الخانقة و يتهدده تباين بين طبقة قليلة تمتلك المال و زمام الأمور تعيث فسادا في مقدرات البلد بفضل امتلاكها مناصب القرار و التسيير و غالبية يؤرقها الفقر و يطحنها.