شعوب ترضى الهوان و أخرى تُعجز الأذهان / الولي ولد سيدي هيبه

خميس, 12/17/2015 - 09:08

أدهشني شريط وثائقي من سلسلة "أوشوايا" الاستكشافية و ذات الطابع المغامراتي الاستقصائي الرفيع يتتبع شعب "الأنتا" من أصل العشرات  من الشعوب المشكلة لموزايك برمانيا التي أصبحت تدعى ميانمار، المشرد و الذي لا يتجاوز إجمال أفراده الثلاث مائة ألف. و لما طفح به كيل المطاردة

و نفي من اليابسة إلى سطح البحيرات لم ييأس فاندفع يبني بيوتا  من الخشب الصلب و يرفعها عن الماء قليلا بأعمدة الخيزران ليشق بينها ممرات مائية حتى شكل أحياء يتنقل بينها حاملا كل ما يحتاج إليه و ما ينتج على متن قوارب خفيفة وسريعة يوجهها بتقنيات مبتكرة في استثنائية نادرة و منقطعة النظير بكل المقاييس الفنية و الجمالية، أملاها كلها رفض الضياع و نبذ التسليم، تعتمد في بساطتها على إحدى الرجلين و لا تكلف إلى المرونة دون الجهد العضلي المضني ما أدخلها سياق المنافسات في مهرجانات الأفراح الموسمية والسنوية.
و لكن الإعجاز الذي انفرد به شعب "الانتا" يكمن بحق في تمكنه الفريد من الزراعة فوق الماء وعلى جزر عائمة اقتطعها بذكاء و مهارة من أرض الضفاف المعشبة مستخدما مناشير طولها بالأمتار و ساقها كما تساق الخراف الطيعة إلى العمق بجوار مساكنه المرتفعة على سيقان الخيزران قليلا عن صفحة الماء ليثبت بساتينه العجيبة هي كذلك في دائرة مغلقة بسيقان الخيزران الطويلة المغروزة حول القطعة العائمة ليحاصرها و لتباشر النسوة من فوق قواربها الخفيفة عملية البذر و الرعاية و القطاف و التسويق في كل الأسواق المنتشرة عبر البحيرات وعلى اليابسة في عملية تبادلية تؤمن الاحتياجات الضرورية لضمان الثبات في العمق المائي الذي أصبح موطنا ومأوى وملاذا.
و لأن شعب "الانتا" فرض نفسه، على أترابه من شعوب اليابسة بإرادة تتجاوز رغبة البقاء إلى رغبة التأثير و البناء، فقد شكل بجدارة لبنة حيوية في فسيفساء برمانيا الملونة و أصبح مضرب الأمثال في الهمة العالية و إرادة الاستقلال و المشاركة في التشييد و العزم على القطيعة مع عادة انتظار رعاية الدولة و مساعدات المنظمات الدولية الخيرية حول العالم.
أما و قد ضرب هذا الشعب الاستثنائي و بعد ما ذاق مرارة الاضطهاد و اكتوى بنار مطاردة الآخر له، المثل في قوة الممانعة و رفض الزوال، فقد استطاع كذلك أن ينبذ لأجل تحقيق اللحمة و الوئام و المشاركة في البناء كل أشكال التمييز الطبقي و يشد على خصوصياته الحضارية وميزاته الثقافية و الابداعية الرفيعة لتسهيل عملية الانصهار و الانسجام إلى الوحدة و الوئام، فإن الشعوب التي تمتلك أرضها و حرية الانتشار و المشي في مناكبها، و الممسكة بزمام حرياتها، هي شعوب مطالبة أكثر من هذا الشعب بكسر قيود هوانها و استغلال نعمة حوزتها الترابية و دائرة وطنها الحاضن و خيراته المغنية من الجوع و مقدراته المؤمنة من الفاقة و كيد الطامعين.
و هي العبر إذا التي يحتاج شعب هذه البلاد الذي ما زالت تطحنه صروف دهر و إن كان زمانها قد ولى نظريا، إلا أنه ما يزال ماثلا بكل عنفوانه و مستحكما بكل جبروته يلجم إرادة التغيير و يسلب قوة التحدي؛ عبرٌ تخلصه من شباك فكر جهالة "السيبة" الذي ما زال بحكم شواهد هذا الجمود وتغلبه على منطق التحول الجاري من حولنا سيدَ ساحة التخلف و انتشار الغبن و الحيف و التباين والتفاوت بين طبقتي الفقراء الغالبة و القلة من المتخمين بالمال العام و قوة النفوذ، لكن هذا الشعب:
·        أصاب نهره الفياض بعقم حتى عجز عن أن يلد المزارعين النبلاء الذين يشقون و يفلحون الأرض لتحقيق اكتفائهم الذاتي و ليصدروا فائضهم،
·        و أصاب أعماقه الأطلسية بعقم آخر حتى هجره السمك و الرخويات إلى شباك الغربيين و الآسيويين و صيادي الجوار، و يكاد يفعل البترول و الغاز من فرط غياب الكادر القادر على الإحاطة بالأمور و إعداد المخططات المناسبة،
·        وأصاب بعقم ثالث معادنه فاستغلها الغريب ليترك بعض الفتات تحت الموائد الفارغة و لتصبح أحجية يتندر بها إعلام الغرب و لا يتألم نظيره المحلي الذي يعوزه التعبير عن المأساة و مسميات أسبابها،
·        و أصاب بعقم رابع وخامس وأكثر العقلَ المدني الذي ولد و تأسس مع الاستقلال ثم قطع شوطا مرتونيا طوله خمسة وخمسون عاما من الدولة المركزية؛ عقم طال أيضا ثوابت الجمهورية إلى سيرة الفوضى الأولى و رجوع القوالب كما كانت تسوس الواقع الأعرج و تكرس الماضوية في جلباب الحاضر البالي الذي يستحي من التوجه عاريا إلى المستقبل.
فهل نطمع أن نكون يوما  كشعب "الأنتا" و ننفض غبار الخضو ع لواقع اختلاط الأوراق وضياع رؤية المستقبل؟