( قبل أسبوع من الآن، وبالتحديد في يوم 22 دجمبر الجاري، وتزامنا مع إعلان إلزام وزارة الداخلية بتقديم تقرير يومي عن الحالة الأمنية الداخلية، وإعلان الأجهزة الأمنية امتلاك قاعدة بيانات عن كل المجرمين المدانين في جرائم وجنح، وبينما أنا أرتب أفكار وفقرات هذا الكلام، تلقيت النبأ الفاجعة، رحيل العمل
الصالح، زهرة الخير التي عقدت وأينعت ثمارها وأطعمتها الغير، وهي لا زالت في طور التفتح! نجل رئيس الجمهورية وهو عائد بأياديه البيضاء من جولة بذل وعطاء داخل البلاد، على خطى والده الرئيس في جولات سابقة داخل البلاد أيضا ولنفس الهدف، رفع ما أمكن رفعه من معاناة مواطني هذا البلد الذي لا زالت بعض شرائحه ومناطقه تعاني، صحيح، لكننا نرحب بجهود كل منظر عبقري يدعي الخوارق والمعجزات والعصي السحرية لرفع معاناة، وردم حفر، ومحو آثار، وبلسمة جراح، وتقويم اختلالات نصف قرن في ست سنوات..! صحيح، " الماه أمداز أعبار ".
تولى الله الفقيد وأحسن مثواه وتقبله في من عنده، وثبت ذويه على الصبر والاحتساب وعوضهم خيرا، ولم يمت من خلف بعده الفعل والذكر الحسن..).
شيئا فشيئا نبتعد عن حياتنا وطبيعة عيشنا الفطرية البدوية، وما كان يطبعها من براءة وصفاء ونظم وقيم اجتماعية متعارفة، طاردة ونابذة لكل سلوك غير سوي. وبقدر ما نبتعد عن تلك الحياة وطبيعة العيش، نقترب شيئا فشيئا من حياة وطبيعة عيش أخرى بأنماطها وظروفها المغايرة.. ومخطئ، كي لا نقول ساذج، من يعتقد، أو يتوقع، أو يتصور، أنه سينعم بالاستقرار في وسط حضري يعج بمئات آلاف البشر من جميع المستويات الاجتماعية، بنزواتها وأهوائها ومستوياتها الثقافية والمادية، وينعم في نفس الوقت بأمان ونقاء الحياة الريفية.
إن معدل انتشار الجريمة في بلادنا لولا استخدامه كإحدى أدوات التعبئة السياسية، ولولا الحيز الكبير الذي يحتله إعلام الرعب والإثارة في ساحتنا، والحبل الذي له على الغارب، وكان أخير ذلك، ولن يكون آخره، خبر انتحار شرطي في آدرار قبل أسبوع، حيث قفز قلب كل أم شرطي هناك أو زوجته أو أبنته إلى حنجرتها معتقدة أن المنتحر ابنها، ليتبين أن الأمر فبركة عن عمد وسبق إصرار، والحدث وقع في بلد آخر!
ولا أعرف لماذا لا تتخذ الإجراءات لتكون هذه هي المرة الأخيرة التي تسول لوسيلة إعلامية نفسها أن تروع الناس بهذه البساطة، ويكون الأمر كأن لم يحدث شيء؟! فقد آن الأوان، إن لم يكن فات، لنتجاوز الجملة التي كررناها للمرة الألف ب " ضرورة تحري الدقة والأمانة في نقل الأخبار " إلى الردع الفعلي، فلا حياة، يبدو، ولا ضمائر لمن ننادي هنا، وتأمين مشاعر الناس لا يقل أهمية عن تأمين أرواحهم وممتلكاتهم.. ولا أعرف كذلك ما إذا كانت النقابات الصحفية التي لا تتأخر في الوقوف مع من يتعرض للإهانة من منتسبيها، وتطالب من أهانه بالاعتذار ورد الاعتبار، مدركة بأنها مطالبة، هي أيضا، بنفس الموقف إزاء من يهين ويتلاعب بمشاعر وأعصاب المجتمع والرأي العام من منتسبيها!
لولا هذه العوامل إذن ( السياسة والإعلام )، بالإضافة إلى الغرابة النسبية لمثل هذه الحوادث عن طبيعة مجتمعنا، باعتبار أن لكل جديد أو مستجد وقع وزخم وصدى أقوى، فإن معدل الجريمة في بلادنا لا زال متدنيا، ولا زال في محل التدارك والتلافي، لا للوصول إلى مستوى " صفر جريمة " فذلك مستحيل، وإنما للحد من الجرائم والسيطرة على معدلاتها في المستويات العادية.
ومتاحة المعطيات عن معدلات الجريمة في كافة بلدان العالم، التي إذا اطلعنا عليها فسنجد أن مستويات الجريمة بكافة أنواعها، وفي أغلب بلدان العالم تبدأ غالبا من 700 جريمة يوميا كحد أدنى، ومن بين هذه المعطيات نأخذ اليابان مثلا، هذا البلد " الالكتروني الروبوتي " الغني والمتطور جدا، الذي يفتخر اليوم بتراجع معدل الجريمة به إلى مستوى 1.4 مليون جريمة سنويا..!!
وفي المغرب المجاور أرتفع معدل الجريمة، حسب وزارة الداخلية، من 260.000 جريمة سنة 2004، إلى 360.000 جريمة سنة 2011. ونجد أيضا أن المعطيات التي تقدمها أجهزة الأمن بالمملكة العربية السعودية، هذا البلد المحافظ والغني جدا هو الآخر، هي بواقع عشرات الآلاف من الجرائم بمختلف أنواعها سنويا.. أما في الولايات المتحدة الأمريكية ( الدنيا الجديدة ) فالكثيرون منا تفرجوا على/ وتسلوا بأفلام المطاردات التي تنفذها أجهزة الأمن في وضح النهار بالمروحيات والسيارات والدراجات ضد شبكات وعصابات الإجرام.
ولم تكن معدلات الجريمة في هذه البلدان على هذا المستوى لأن أجهزتها الأمنية مكتوفة الأيدي، أو قوانينها عاجزة أو غائبة، أو مؤسساتها التربوية فاشلة.. وإنما لأن الجريمة سمة من سمات الحياة المدنية، وأحد أوبئة العصر والحداثة، وواقع يتطور بتطور آليات التصدي له، وله ما مغذيات عديدة منها الاقتصادي ومنها الثقافي والاجتماعي كالفقر والبطالة، وانفراط عقد الرابط والضابط الأسري، وأوقات الفراغ، والعولمة وفتح الفضاء وسرعة الاتصالات.. وذلك في البلدان الفقيرة والغنية على حد سواء.
إذا حدثت اليوم أي شخص في العالم عن معدل انتشار الجريمة في بلادنا، وقلت له إنه بواقع جريمة قتل كل شهر، مع أنه تمر أشهر دون حدوث جريمة قتل بدافع الجريمة، وأنه بواقع عشر أو عشرين عملية سرقة أو سطو كل 24 ساعة فلن يصدقك، وإذا صدقك فسيقول لك سأحزم أمتعتي وآخذ عيالي وممتلكاتي وأقيم عندكم..! أنت هنا لم تكذب عليه، وإنما حدثته بالواقع الذي لا يصدقه بالنسبة لمعدلات انتشار الجريمة وتطور أساليبها في العالم، وهو الواقع الذي جعلنا نقول إن معدل الجريمة في بلادنا لا زال متدنيا وفي محل التدارك، حتى مع التهويل الذي يرافقه ويستغله.. وأنا هنا لا " أقارع " التهويل من معدل الجريمة بالتهوين منه، فلا أرى ذلك يغير من الواقع شيئا، وإنما أضع الظاهرة في نطاقها الواقعي والصحيح.. ومع ذلك فمن نافلة القول التأكيد على واجب الدولة في تأمين أرواح وممتلكات مواطنيها، دون أن تكون في حاجة لمن يطالب بذلك أو يتظاهر من أجله، باعتباره واجبها وحق المواطن عليها.
وإن كنت ممن يعترفون للأجهزة الأمنية بدورها، الذي لا يمكن إلا أن يكون مؤشرا على تحمل للمسؤولية، ويقظة وتأهب طبقا لإستراتيجية أمنية محددة، إلا أن الاستراتيجيات عموما، والأمنية خصوصا، هي دوما بحاجة للتحديث والتطوير تبعا لتطور المجال الذي رُسمت من أجله، وهنا يأتي القرار المعلن حديثا بإلزام وزارة الداخلية بتقديم تقرير يومي عن الحالة الأمنية، ليكون موضوع الأمن على طاولة البحث والتحيين بشكل يومي، واتخاذ الإجراءات تبعا لتلك التقارير، هذا القرار الذي لا يقل عنه أهمية توفر إدارة الأمن على قاعدة بيانات عن كافة المدانين بجرائم أو جنح، لسد الباب أمامهم لدخول الأسلاك الأمنية والعسكرية مستقبلا.
وهو الأمر الذي يعد اعترافا ضمنيا باختراق الأجهزة الأمنية من قبل أصحاب سوابق تسللوا إليها في فترات سابقة عبر مسابقات واكتتابات، وهو الاعتراف الذي يجب أن يتبعه، ودون تأخير، تطهير هذا الجهاز من كل من ثبت، بشكل مباشر أو غير مباشر، أنه التحق به أصلا بهدف أن يكون هو " حراميها في زي وهيبة ومظنة حاميها "! و ليس ذلك فقط، بل سيكون من المهم أيضا، وكإجراء وقائي، استغلال قاعدة البيانات هذه في تجفيف منابع الجريمة، فلجهات أخرى تربوية واجتماعية دورها الأساسي في الحد من إمداد سوق الجريمة بمجرمين جدد، عن طريق التربية وانتشال المهيئين لدخول سوق الإجرام، ولكن من أصبح اسمه على قاعدة بيانات السوابق والإجرام لدى الأجهزة الأمنية، فعليها أن تدرك أنه وهو خارج من السجن بعد انقضاء محكوميته، أو قبل انقضائها في عفو أو تدخل من نافذين، ليس تائبا ولا زاهدا ولا ناسكا، وإنما يتربص ويخطط ويُطور أساليبه ومهاراته لارتكاب جرائم جديدة.. فليس لديه رصيد مادي أو أخلاقي سيفقده بارتكاب جريمة ودخول السجن من جديد، بيته الذي ألفه!
فتوفر قاعدة بيانات تضم لائحة سوداء لأصحاب السوابق أمر في غاية الأهمية، لكنه سيكون محدود الأثر إذا اقتصرنا في استغلالنا له على الطريقة التقليدية، أي المجرم نعرفه وهو مصنف لدينا كمجرم، لكننا ننتظره حتى يرتكب جرما أو يرتكبه غيره فنأتي لوكره بحثا عنه! فما نعنيه بتجفيف منابع الجريمة هو فتح " باب دوار" لكل من هم على هذه اللائحة السوداء يلجون منه إلى مراكز لإعادة التربية والتهذيب، موازاة مع التكوين على الحرف والإنتاج، وذلك في محيط معزول بعيد عن محيطهم الذي تعودوا فيه على ممارسة الإجرام، بحيث لا يخرجون من الدفة الثانية للباب الدوار، إلا وهم أناس آخرون مؤهلون لاستئناف حياتهم الطبيعية بسلوك جديد..
فعمليات التأهيل التي يخضع لها اليوم القصر الجانحين الذين هم " مجرمون هواة " لا تقل عنها ضرورة تأهيل المجرمين المحترفين الأكثر خطورة وعدوانية، ففي تأهيلهم وتكوينهم خدمة لهم، وفي نفس الوقت إراحة للمواطنين من صولاتهم، وهو أجدى من الدوريات التي لا يمكنها بأي حال السيطرة على جرائم يتم التخطيط لها في البيوت والأزقة في مدينة مترامية الأطراف.. خاصة مع التكاليف الكبيرة لهذه الدوريات وما تتطلبه من إمكانات لوجستية! فمن سيرتكب الجرائم إذا كان كل المجرمين في مراكز الاحتجاز وإعادة التأهيل؟!
لا ينبغي كذلك أن نسخر من قول السلطات الأمنية إن للمواطنين دور في مكافحة الجريمة، فأن تتزين فتاة وتخرج من بيت أهلها في أوقات معينة حتى دون أن تستأذنهم، فتتعرض للخطف أو الاغتصاب، أو ينام الآباء عن أبنائهم المراهقين منتصف الليل وهم خارج البيت، دون أن يعرفوا أين كانوا، ليكون ذلك بداية لانحرافهم، فذلك مسؤولية الأسر وليس الشرطة..! كما أن الأسلوب البدائي في تداول النقود الذي لا زال بعضنا يمارسه، فيسحب كيس نقود من مصرف، أو يستلمه من تاجر في سوق ويخرج به على مرآى من الجميع، وكذلك حفظ رزم النقود في خزنات المحلات التجارية رغم انتشار البنوك ومراكز الإيداع والادخار، واعتماد أصحاب المحلات والمؤسسات في حراسة محلاتهم ومؤسساتهم على عجزة عزل كما كانوا يفعلون في ستينات القرن الماضي، وكذا ركن السيارات في أماكن غير آمنة، والانفتاح الزائد على الغرباء والثقة العمياء فيهم، كلها مسلكيات يتحمل المواطن المسؤولية الأولى عن تبعاتها لأن الظروف تغيرت وتعقدت..