لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي «رفائيل لوجيه» أن كل الديانات الكبرى تعرف حالياً استقطاباً داخلياً بين ثلاث نزعات متمايزة: نزعة روحانية سلمية، ونزعة «كارزمائية» تحشيدية، ونزعة أصولية إحيائية. وعلى عكس الصورة السائدة، ليست الحالة الأصولية خاصة بالمجتمعات المسلمة، بل ظاهرة قوية في التقليدين اليهودي والمسيحي، بل وفي الهندوسية والبوذية، كما أن النزعة الكارزمائية قوية في المسيحية (البروتستانتية) وفي البوذية، بقدر ما أن البوذية ليست كلها روحانية مسالمة، بل لها طابعها العنيف الذي دفع ثمنه غالياً مسلمو بورما وسريلانكا.
وبالوقوف عند الحالة الإسلامية، اعتماداً لنمذجة «لوجيه»، يمكننا بالفعل التمييز بين ثلاثة توجهات بارزة في الحقل الإسلامي الراهن:
- التوجه الروحاني الذي يسير في مسلكين فردي وجماعي، في تناسق مع أنماط الوعي الديني في المجتمعات المعاصرة، ويتمحور حول التجربة الصوفية التي تشهد نمواً مطرداً في أوساط الإسلام الأوروبي. الأمر هنا يتعلق بنمط من التدين يعزز قيم الرفاهية الشخصية والسمو الأخلاقي، ويعضد أواصر اللحمة الاجتماعية قي مجتمعات تكرست فيها الفردية الذاتية. لا يعاني التوجه الروحاني أي إشكالات في الاندماج في مقاييس العيش المعاصرة، بل يتناسب مع نمطي التدين النخبوي والتدين الأهلي، كما أنه يتسم بسمات السلمية والتسامح والانفتاح.
-التوجه الأيديولوجي الذي يصنفه «لوجيه» ضمن المنظور الكارزمائي، باعتبار طابعه التنظيمي التحشيدي وارتباطه بالزعامات القيادية، بيد أن المقصود هنا هو الإسلام السياسي الذي يتميز بقراءاته الأيديولوجية للدين، من منطلق السمة السياسية العضوية للدين التي تعبر عنها مقولة «الإسلام دين ودولة»، التي صاغتها مدرسة «الإخوان» في عهدها التأسيسي، وحافظت عليها من بعد شعاراً محدداً. ما يميز التوجه الأيديولوجي في الإسلام المعاصر عن الاتجاهات الكارزمائية في الديانات الكونية الكبرى هو هذا الطموح السياسي الحزبي للوصول إلى السلطة عن طريق مشروع يستخدم الورقة الدينية برنامجاً للحكم وإطاراً تعبوياً للفعل السياسي، وهي سمات ضعيفة في الديانات الأخرى، حتى ولو كان الطابع التحشيدي يأخذ أشكالًا أخرى تبرز خطورتها في الجماعات المسيحية واليهودية والبوذية المنظمة التي أصبحت لبعضها أدوار سياسية متعاظمة، وإن كانت لا تحمل مضامين أيديولوجية سياسية (كبعض التنظيمات الإنجيلية الأميركية).
-التوجه الأصولي الإحيائي الذي ينزع إلى استعادة أصول التقليد الديني برفض الوسائط التأويلية والسياقات الثقافية للتدين، طموحاً مستحيلاً للتماهي مع اللحظة التأسيسية. ما يميز النزعات الأصولية هو انكفاؤها وانغلاقها العقدي والمذهبي ورفضها للحداثة فكراً وقيماً ونمط عيش، كما يتجلى في مسلكيات الجماعات الأصولية في مختلف الديانات الكونية. الأصولية في ذاتها ليست مؤدلجة، وليست بالضرورة عنيفة، لكنها قابلة للتحول إلى العنف وعرضة للتوظيف الأيديولوجي، كما هو شأن النزعات السلفية الجديدة التي أصبحت ركيزة للجماعات الإرهابية المتطرفة، مع أن الدعوة السلفية في أصلها لا تميل للعنف، وتتسم بالتوجه الانعزالي المغلق، والهروب عن المجتمع، والحرص على عدم الاختلاط به.
المأزق الكبير الذي تواجهه المجتمعات الإسلامية، راهناً، هو الأثر المضاعف لانحسار التقليد الديني في أبعاده التراثية الحية وانتكاسة المشروع الإصلاحي التجديدي، في ما يبدو في تنامي الاتجاهات الأيديولوجية التي تطرح خيارات حداثية مأزومة ومختلة باسم المرجعية الإسلامية دون الوعي بأن مسار أدلجة الإسلام هو في منطقه الأعمق تكريس لعلمنة ملتبسة تعمق خروج الدين من المجال العمومي، بقدر ما أن الاتجاهات الأصولية الإحيائية عندما تفشل في مشروعها الهروبي الانكفائي لا يبقى لها إلا المحاولة اليائسة لاستعادة لحظة الماضي بوسائل العنف المدمر والعدمي.
أما الاتجاهات الروحانية، فهي على اتساعها لا تهم إلا نخباً محدودة، باعتبار أن ما نشهده حالياً هو الانتقال من نمط التصوف الشعبي المرتبط بالتنظيمات الطرقية إلى نهج الروحانيات التأملية والسلوكية الفردية التي، وإن كانت تستند إلى التقاليد الصوفية العريقة، فإنها تعبر عن تجارب حديثة في ممارسة الدين ضمن منظور الرفاهية الشخصية والضمير الذاتي الحر.
وحاصل الأمر أن الإسلام، من حيث هو دين وثقافة، لا يحمل جذور الانغلاق أو التطرف الأيديولوجي، فما نعيشه حالياً هو انفجار التقليد الإسلامي الذي انجر عنه صراع محتدم داخل الدين حول رهانات التأويل والشرعية.
السيد اباه