تثير مسألة التعدّد الثّقافي واللّغوي جدلاً واسعاً في الساحة الثّقافيّة بموريتانيا، وهو جدل بدأ منذ الأيام الأولى لاستقلالها عن فرنسا (1960) ثم تطوّر لاحقاً بفعل تباين وجهات النظر لدى القوى الوطنيّة حول الإرث الاستعماري المتمثل في اللّغة الفرنسية التي أضحت لغة التداول الرسمي والمراسلات الإدارية في البلد.
تنوّع اجتماعي وثقافي
تعيش في موريتانيا أكثر من خمسة مكونات اجتماعية أبرزها: البيظان والحراطين والبولار والسوننكي والوولف والأمازيغ… وغيرها. وهي مكونات اجتماعية لها امتدادات خارج حدود موريتانيا إلى دول الجوار في الجنوب والشرق والشمال. وتتعدّد لغات هذه المكونات، بينما يشترك البيظان والحراطين في لغة واحدة هي اللّغة الحسانية (اللهجة العربية المحلية). ورغم أنه لا توجد إحصائيات دقيقة أو تقريبية لعدد الناطقين بكل لغة من هذه اللّغات فإن باحثين اجتماعيين يؤكدون تصدر اللّغة الحسانية تليها البولارية والسوننكية والوولفية، ثم اللّغة الأمازيغية التي تراجعت في موريتانيا.
وقد نصّ الدستور الموريتاني بعد التعديلات التي أُجريت عليه في 2011، على أن اللّغات الوطنيّة هي العربية والبولارية والسوننكية والوولفية واللّغة الرسمية هي العربية، كما تقول المادة السادسة من هذا الدستور. كما أدرجت السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية بموريتانيا ضمن دفتر الالتزامات الخاص بالإذاعات والقنوات التليفزيونية الخصوصية حصصاً تمثل حداً أدنى يجب توافره في ساعات البث باللّغات الوطنيّة. إلّا أن ما يوصف بضعف حضور اللّغات الوطنيّة في المناهج التعليمية وفي وسائل الإعلام الرسمية والخصوصية يثير انتقادات الناطقين بها، بل يعتبر البعض منهم أن ترسيمها في الدستور يبقى ذراً للرماد في العيون ما لم يصاحبه الاعتناء التطبيقي.
لغات وطنيّة في التعليم
برزت الحاجة في وقت مبكّر بعد استقلال موريتانيا إلى ضرورة مَدّ الجسور بين مكونات المجتمع عبر إدراج اللّغات الوطنيّة كمواد دراسية في المناهج التعليمية، خصوصاً في ظِلّ حالة باتت تشبه الانفصام الاجتماعي والثّقافي. وحسب رأي الأستاذ خالد ولد الفاضل «اللّغات الوطنيّة هي الحل لتقريب وجهات النظر ومَدّ الجسور بين مكونات المجتمع». وقد بدأت التجارب الأولى لتدريس اللّغات الوطنيّة في المدارس التعليمية بموريتانيا مطلع الثمانينيات. وكانت هذه التجربة تقضي بأن يتم اعتماد اللّغة العربيّة أو الفرنسيّة كلغة تعليم أولى على أن يختار التلميذ لغة ثانية من بين اللّغات الوطنيّة التي يستخدمها مكوّن اجتماعي لا ينتمي هو إليه.
وعن تقييم هذه التجربة يرى الباحث في اللّغات والثّقافة الموريتانية الأستاذ الطيب صو «أن لجنة التقييم تعتبر هذه التجربة ناجحة، كما أشادت بها منظمات تربوية دولية ووصفها بالفريد. وقد توقّفت هذه التجربة مع بدء اعتماد الإصلاح التربوي الذي انطلق منذ 1999، ليتم تحويل معهد اللّغات الوطنيّة إلى ملحق في قسم اللّغات والترجمة بكلية الآداب في جامعة نواكشوط وكأحد الاختصاصات المتاحة لطلاب اللّغات والترجمة.
انتشار الفرنسيّة
خلّفت فرنسا لغتها بموريتانيا وهي تسيطر على الإدارة في المؤسسات العمومية، وتسيطر بدرجة أقلّ على التعليم الذي كان للعربية حضورها فيه ولو أنه حضور ضعيف جداً. كما أن ثقافة النخبة الوطنيّة التي قادت البلد في سنوات ما بعد الاستقلال، وهي نخب تلقت تكوينها التعليمي بالفرنسية كانت عاملاً أسهم في ترسيخ هذه اللّغة داخل قطاعات الدولة الوليدة لتحقّق من الانتشار في ظرف وجيز ما لم تحقّقه طيلة عقود الاستعمار.
وزاد من حضور اللّغة الفرنسيّة في الوسط الثّقافي بموريتانيا ما يعبّر عنه أ.الطيب صو بـ «افشال تجربة تعليم اللّغات الوطنيّة»، إذ أصبحت الفرنسية هي اللّغة المشتركة بين المكونات الاجتماعية يلجأ إليها الجميع للتخاطب أمام واقع وظروف لم تسعف في نشر لغات المجتمع بين أبنائه.
ثم عزّز الإصلاح التربوي من سيطرة اللّغة الفرنسية في قطاع التعليم، حيث أقرّ تدريس المواد العلمية بهذه اللّغة ابتداء من السنة الثالثة ابتدائية، في محاولة لخلق الازدواجية اللّغوية. ويصف الأستاذ خالد ولد الفاضل الإصلاح الجديد بأنه «أربك التعليم»، حين فرض تدريس اللّغات العلمية بالفرنسية وتدريس المواد الأدبية باللّغة العربيّة ولم يراعِ الخصوصيات الاجتماعية.
مطلب التعريب يراوح مكانه
على الرغم من سيطرة النخب ذات التكوين الفرنسي فإن دعوات تعريب الإدارة والتعليم بدأت في وقت مبكّر بعيد استقلال موريتانيا، حيث نادت بها قوى عروبية باعتبارها ضرورة لاستكمال استقلال ترى أنه يبقى ناقصاً ما لم تتم القطيعة مع لغة المستعمر، إلّا أن نخباً زنجية واسعة وقفت ضد دعوة التعريب التي رأت فيها محاولة لسحب البساط من تحتها ومحاصرتها.
ومع أولى بوادر التجاوب الحكومي مع دعوات التعريب منتصف الستينيات كانت الساحة الطلابية بموريتانيا على موعد مع صدامات عرقية دامية استدعت تدخل الجيش الوليد للسيطرة عليها وإخمادها؛ وهي الصدامات التي تكرّر حدوثها في العاصمة نواكشوط وفي بعض أقاليم الداخل الموريتانية مع تجدد دعوات التعريب.
وتزامن سياق هذه الصدامات مع بروز تيارات قوميّة عربيّة وزنجيّة تتباين مواقفها حول أكثر من قضية وطنيّة؛ وهو ما يخرج هذه الأحداث من دائرة الاختلاف بشأن الموقف من لغة التعليم إلى صراع وجودي كما تراه أطرافه. ولم تكنْ النخب الزنجيّة ذات التكوين الفرنسي وحدها من يقف في صف معارضة التعريب، بل كانت النخب العربية المتفرنسة أيضاً ضد أي قرار من شأنه أن يؤثر على مكانتها في الإدارة. وبحكم مواقعها المهمة في مفاصل الدولة عملت جاهدة للإبقاء على الوضع كما هو.
ابوبكر احمدوالامام