باتت الهجرة نحو الشمال الغني ظاهرة إنسانية معهودة ،وحلما يراود جل شباب العالم الثالث والأفارقة خصوصا، حيث خاطر الآلاف بأرواحهم في سبيل الوصول الى فردوس أوروبا، فابتلعت المحيطات منهم من ابتلعت وترصد حرس الحدود منهم من نجى ليعيدونه أدراجه وقليلون من حالفهم الحظ للوصول الى بر الجنة المقصودة.
لكن المفارقة هي أن يكون حلم شباب آخر في العالم وجهة أخرى ،الهجرة نحو أدغال افريقيا السمراء ظاهرة موريتانية بامتياز..
محمد بوخاري شاب ثلاثيني خاض تجربة صعبة للوصول الى أنغولا في العام 2010، بعد أن ضاق به ضنك العيش في بلده وهو خريج كلية الاقتصاد ، حيث أغراه صديقه الذي ترك دراسته باكرا و هاجر للعمل في أنغولا وعاد بعد أربع سنوات بأموال طائلة لخوض التجربة .
يقول محمد : ” نظرا لعدم وجود سفارة بيننا وانغولا كان الحصول على التأشيرة صعبا يخضع لمضاربات السماسرة فيصل الى مليون أوقية أحيانا ، فقررت لكوني لا أملك المبلغ المطلوب للحصول عليها أن أسافر عبر السنغال الى غامبيا ومنها أبحث عن طريق يوصلني الى انغولا”.
يعيش معظم المهاجرون هناك حالة استنفار دائم بحسب المتحدث باسم الجالية الموريتانية في انغولا عبد لله ولد سيد ابراهيم. حيث يعتبرأن ” الخوف يسيطر على الأجانب نتيجة غياب سلطة تحميهم داخل بلد تستحل عصاباته دماء الغرباء حسب تعبيرهم. فقد رويت قصص كثيرة عن حوادث شبه سنوية راح ضحيتها شباب مورتانيون على يد لصوص أنغوليين لايتعدى الحادث فيها رواية تحكى دون أن يكون هناك أي امكانية لمتابعة الجناة”.
ويضيف ولد سيد ابراهيم : ” على الصعيد الرسمي أيضا ضويق الموريتانيون من طرف نظام الدولة الأنغولية وتعرضوا لحملات اعتقال وصودرت أموال العديد منهم، وأوراقهم كان آخرها في العام المنصرم”. حيث أثار ذلك حفيظة الشارع الموريتاني وتحرك ضده مرارا مطالبا الدولة بتفعيل دبلوماسيتها إبان كانت رئيسة للاتحاد الافريقي لحماية مواطنيها المهاجرين في انغولا .
بالمقابل عينت الدولة الموريتانية مطلع العام 2013 سفيرا في أنغولا ومضت فترة طويلة ولم يعلن عن سفارة فعلية في البلد، فيما تسلم الرئيس ولد عبد العزيز أوراق اعتماد سفير أنغولي في نواكشوط في 11/03/2015 دون أن يتم افتتاح سفارة انغولية أيضا في نواكشوط بحسب خبر نشرته الوكالة الموريتانية للأنباء .وذكرت فيه أن مباحثات جرت بين الرئيس والسفير حول وضع الجالية هناك..
بعيدا عن حسابات الساسة كان الحاج محمد عمر (أحد العائدين من ساحل العاج) يقف مع عشرات الأسر أمام القصر الرئاسي في نواكشوط وهو يحمل شعارا يطالب فيه الرئيس بالوفاء بتعهداته للعائدين من ساحل العاج، بلد أفريقي آخر ذاق الموريتانيون فيه الأمرين بعد أن استقر بهم الحال فيه لعقود وهاجرت نحوه أسر كثيرة امتهنت التجارة فيه ،إلا أن طارق الحرب عصف بهم واضطرهم بعد مضايقات واعتداءات للمغادرة الى بلدهم الأم تاركين خلفهم بيوتا وأموالا اجتهدوا أعمارا لتحصيلها بحسب تصريح الحاج محمد عمر 53 عاما .
بدأت قضية هؤلاء إبان ما عرف بالأزمة العاجية عقب الانتخابات الرئاسية في العام 2010 وما تبعها من عنف داخلي في ساحل العاج دفع الأجانب للفرار من البلد الملتهب، فوصل الى نواكشوط قرابة 432 مواطنا موريتانيا ، بحسب إحصاء قامت به وزارة الداخلية الموريتانية عبر جسر جوي فتحته الحكومة لإجلائهم في العام 2011.
ممثل العائدين من ساحل العاج سيد محمد ولد خطري يذهب الى أن ” الهجرة نحو البلدان غير المستقرة سياسيا هو مخاطرة في حد ذاتها ” ،مؤكدا أن ” الوضع السياسي والأنظمة القائمة في افريقيا عموما لا تملك مقومات الاستقرار نتيجة لغياب سبل حقيقية للتداول السلمي على السلطة مما يجعلها عرضة في أي لحظة لهزات أمنية يدفع المهاجرون ثمنها غاليا كما حدث معهم في ساحل العاج عقب الأزمة العاجية ما بعد انتخابات 2010 “.
أحمد الشيخ شاب عشريني خاض تجربة الهجرة نحو أنغولا أيضا يقول : ” سافرنا الى افريقيا لتأمين مستقبلنا من خلال العمل في التجارة أو التنقيب عن الأحجار الكريمة بالرغم من كونها مخاطرة جسيمة إلا أنها أسهل طريقة للاغتناء السريع لكننا صدمنا بظروف قاسية تفرض علينا دفع فدية لحماية نفسنا “.
يضيف أحمد : ” الرواتب باتت زهيدة وغالبا ما تكون محاطا بالخطر، سلكت طريقا طويلا كان محفوفا بالأخطار فهناك معاناة كثيرة في الرحلة وغياب لحماية الأجانب كثيرا ما يتعرض الشباب للابتزاز والسلب”.
الصحفي عثمان عبد الجليل خاض تجربة اكتشاف لظروف الهجرة يحدثنا قائلا : ” تواصلت مع أحد مسؤولي الجالية في أنغولا حيث دلني على وكالة سفريات في السوق المركزي بنواكشوط طلب مني القائمون عليها دفع مبلغ 2000 دولار وتم تسليمي فيزا مزورة وأوقفت على الحدود وألزمت أيضا بدفع مبلغ آخر لأتمكن من الدخول الى انغولا”.
يضيف عثمان أن وكالة السفريات اشترطت عليه توقيع عقد يحلها من كل التزام بإعادة المبلغ في حالة تم منعه من طرف السلطات الأنغولية من دخول البلاد، مؤكدا أنهم عرضوا عليه دفع 1000 دولار أخرى في حالة تم منعه ليسهلوا له الدخول عن طريق علاقاتهم في الداخل الأنغولي وهو ما اعتبره عثمان يوحي بعدم دقة الفيزا المقدمة من طرف الوكالات وهو ما تبين لاحقا.
بدوره الأمين العام لإتحادية السياحة إمريحب ولد إخنافر التي تنضوي وكالات السفريات تحت اتحاديته قال: “إن الفيز المزورة تصدر عن وكالات غير مسجلة قانونيا وغير معترف بها رسميا مؤكدا أنهم في الاتحادية يرفضون مثل هذه التصرفات “. و في رد على سؤال حول امكانية فتح مكاتب غير مرخصة أضاف امريحب أن هناك سوقا سوداء للوكالات في البلد صعب التحكم فيها في ظل غياب رقابة فعلية، حسب تعبيره.
توالي هذه الأحداث والحملات الداخلية للسلطات الأنغولية دفعت تكتل الجالية في انغولا الى استصدار تعميم حذرت فيه الموريتانيين من أخذ التآشير من نواكشوط، وطالب التعميم من يرغبون في السفر الى انغولا بأخذ تأشيراتهم من المغرب أو الجزائر لوجود تمثيل دبلوماسي للبلد فيها.
وفي نفس السياق خرجت مبادرة في الداخل الموريتاني أطلقت على نفسها “مبادرة أنقذوا الجالية في انغولا” طالب رئيسها البو ولد المعلوم بتحرك الجهات الرسمية لإنقاذ الجالية الموريتانية في انغولا في ظل حملات التوقيف التي تتعرض لها من خلال الإسراع في انشاء سفارة للجمهورية الاسلامية داخل أنغولا .واعتبر ولد المعلوم خلال حديث معه أن الحملة توقفت حاليا نتيجة لظروف أعياد نهاية العام لكنه يتوقع أنها ستعود مؤكدا أن هناك عشرات الموقوفين حاليا في السجون الأنغولية.
على الصعيد الرسمي، بعد محاولات مع الوزارة المنتدبة لدى وزير الخارجية المكلفة بالشؤون المغاربية والإفريقية وبالموريتانيين في الخارج للرد على تساؤلاتنا حول ظروف هؤلاء الشباب المهاجر اكتفى مسؤول في الوزارة فضل حجب اسمه بتقديم احصائيات تعود للعام 2005 عن تعداد الموريتانيين في الخارج. واعتذر عن الخوض في الظروف التي يعيشها الشباب مكتفيا بكون الهجرة قرار شخصي يتحمل صاحبه نتيجته.