الصراع الجاري حاليا بين ايران والسعودية هو صراع سياسي على النفوذ في منطقة ملتهبة تشتعل فيها الحرائق من كل أرجائها وتعمّ فيها الفوضى. هذا الصراع السياسي بين الدولتين يستخدم المذهب والطائفة من كلا الجانبين للتعبئة والتحشيد فتحول الصراع الي صراع مذهبي بين السنة والشيعة. وعلى الرغم من أن هناك اختلافا بين المذهبين في بعض فروع العقائد والأحكام الفقهية فإنهما متفقان على أصول الدين وقواعده العامة. هذا الاختلاف في بعض فروع العقائد والأحكام الفقهية ليس مقصورا بين مذهبي أهل السنة والشيعة فقط وإنما يقع أيضا بين مذاهب اهل السنة أنفسهم. وهذا خلاف طبيعي ناتج عن اختلاف العقول والأدلة والأفهام (1
وقد فطن إلى ذلك العلّامة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر في الخمسينات من القرن الماضي حيث أمر بتدريس المذهب الجعفري الشيعي الإمامي في الأزهر كغيره من المذاهب السنية الأخرى وإلى يومنا هذا يدرس المذهب الجعفري في الأزهر. وأفتى كذلك بجواز التعبد به مثله مثل المذاهب السنية الأخرى كالشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية وأيده معظم شيوخ الأزهر في ذلك. وقدأسس الشيخ شلتوت مع الشيخ الشيعي محمد تقي الدين القمني دارا للتقريب بين المذهبين فى الأزهر(2). فما يجمع بيننا وبين اخواننا الشيعة أكثر مما يفرقنا. إنهم مسلمون كغيرهم ممن ينتمون الي الإسلام من فرق الإسلام، يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر ويقيمون الصلاة ويؤدّون الصوم ويؤتون الزكاة ويحجون البيت. (3)
وما يشاع في كتابات البعض من أنهم يعتقدون بتحريف القرآن وعندهم مصحف فاطمة فليس له عند التدقيق أساس من الصحة، وكثير من علماء الشيعة الكبار أنفسهنم اثبتوا بطلان هذا القول. كما أكد كثير من علماء السنة الذين زاروا ايران أيضا عدم صحة هذا القول ورأوا بأم أعينهم أن المصاحف في مساجد ايران مثل مصاحفنا في مساجد أهل السنة لا تغيير فيه ولا زيادة ولا نقصان (4).أما ما يقال من نشر التشيع في المحيط السنّي فلا يخفى ما في ذلك من التّضخيم والتّهويل تنفخ فيها جماعات إسلامية معروفة بارتباطاتها بسياسات الدول التي تقوم بتمويلها ورعاية أنشطتها ومشاريعها.
ما ينسب إليهم من سب للصحابة وأمهات المؤمنين فهي مسألة أخلاقية وليست عقدية يتبرأ منها جلّ علماء الشيعة المعاصرين ولا يقوم بها اليوم الا قلّة قليلة من غلاة الشيعة لا يمكن الإعتداد بها ولا يمثلون التيار العام من الشيعة { نحن هنا في هذا المقال نتحدث عن الشيعة الإمية الإثنا عشرية}. وقد أصدرت مراجع شيعية كثيرة – منهم المرشد الأعلى السيد علي خامنئي والمرجع الشيخ علي السيستاني والشيخ فضل الله – فتاوى يحرّمون فيها سب الصحابة وأمهات المؤمنين ورموز أهل السنة, وقد أثبت الشيخ القرضاوي أنّ الكف عن سب الصحابة يقوي شيئا فشيئا في إيران (5). سباب الإنسان مسلما كان أو غير مسلم رذيلة أخلاقية يترفّع عنها كل إنسان سوي فما بالك بسبّ الصحابة وأمهات المؤمنين .
فالخلاف الاساسي بين المذهبين بدأ سياسيا لمن له حق الولاية والامامة علي المسلمين بعد الرسول وبقي سياسيا الى يومنا هذا. وما نراه اليوم من احتكاكات وعراك ليس الا مظهرا من مظاهر تلك الحقيقة التاريخية. فالصراع اليوم بين ايران والسعودية ليس إلا امتدادا لهذا الصراع السياسي وإن تدثر بغطاء ديني ومذهبي إلا أنه في العمق والجوهر سياسي ويتمحور حول من له حق الولاية علي المسلمين في شرق أوسط جديد تنهار أنظمته وتتغير معالم خرائطه القديمة.
يبدو أن اتفاقية سايكس بيكو قد شارفت على الانتهاء واستنفدت أغراضها والعالم يعد العدة لوضع حارطة تقاسم جديدة للعالم العربي ليس فيها دور للضعفاء. في الشرق الأوسط الآن هناك ثلاث قوى اقليمية قد يسمح لها الغرب بالحصول على قسط من الكعكة. تلك القوى هي تركيا واسرائيل وايران والاخيرة هي الأكثر نفوذا وتأثيرا واستطاعت أن تلعب أوراقها بمهارة فائقة. لديها مناطق نفوذ واسعة تمتد من العراق واليمن مرورا بسوريا ولبنان، كما نجحت في كسب الأقليات الشيعية في العالم العربي الي جانبها. وماالاتفاق النووي الذي توصلت اليه الدول الكبرى مع ايران الا اعلانا بالاعتراف بايران ودورها كدولة اقليمية لايمكن تجاهلها لايجاد اي حل سياسي أو عسكري في مناطق التوتر في الشرق الأوسط. اما العرب فهم أيتام على مائدة اللئام إنهم في حالة يرثى لها. جميع الأهداف التي سجلوها – للأسف – كانت في مرماهم ولصالح ايران, تآمروا على اسقاط العراق وتدميره، ثمّ يبكون على اللبن المسكوب.وبسقوط العراق خرج العرب من حلبة الصراع واختلت موازين القوي في المنطقة لصالح ايران التي لم تفوت فرصة لالتقاط تلك الهدية الثمينة.
حتى اللعب بالورقة الطائفية وإن بدت ظاهريا أنها لصالح المعسكر السنّي إلا انها عند التأمّل والتعمّق كانت لصالح ايران وحققت لها حلما كان يراودها منذ زمن بعيد. الانتماء العروبي كان قويا عند الشيعة في العالم العربي قبل الغزو الأمريكي للعراق. ولا أدل على ذلك من ان معظم الجيش العراقي بل وكبار الضباط ابان الحرب العراقية الايرانية كانوا من الشيعة. لم يقصروا في الدفاع عن وطنهم وكان الانتماء الوطني لديهم أقوى من الانتماء المذهبي أوالطائفي.
تصوير الصراع السعودي الإيراني على أنه صراع بين السنة والشيعة والحملة الدعائية التي يقوم بها البعض في وسائل الإعلام ضد الشيعة من الإقصاء والتكفير والتخوين واظهارهم كطابور خامس يخدمون الأجندة الإيرانية في بلدانهم كل ذلك ساهم في ارتماء شيعة العرب في أحضان ايران والتي بدورها لم تأل جهدا في استثمار هذا الكنز الثمين كحام حمي الشيعة في كل مكان.
دور العلماء في هذا الصراع كان معظمه تحريضيا وطائفيا يهيج مشاعر العامة ويزرع الشقاق بين المسلمين. جعلوا الدين أيديولوجية سياسية يستخدم فيها الصراع السياسي بين بعض الدول الإسلامية. مشائخ الفضائيات ملؤوا الدنيا ضجيجا وصموا آذاننا صباحا ومساءا بأن الشيعة كفار زنادقة بل انهم أشد على المسلمين من اليهود والنصاري وما الى ذلك من حملات التكفير والتشهير والتشنيع وكأن الله اصطفاهم وعيّنهم كناطقين رسميين باسمه، يكفّرون ويفسّقون ويبدّعون ويضلّلون من شاءوا من المسلمين. لانستغرب ان تصدر مثل هذه الفتاوى عن التيارات السلفية فخطابها مشحون بالتشدد والإقصاء وأدبياتها مليئة بالتكفير والتخوين والتبديع ليس على الشيعة فقط وانما علي جميع الفرق السنية الأخرى من أشعرية وماتريدية، ليست أي غرابة في مواقف هؤلاء وإنما الغرابة حقا في مواقف بعض العلماء المعتدلين من أهل التقريب بين المذاهب الإسلامية الذين نكصوا على أعقابهم وجنحوا إلى خطاب التشدد والتفريق بعدان كانوا يدعون إلى الوحدة والوئام وكانت لهم جهود جبارة مشكورة في هذا المجال.
لم يكن رهاننا على هؤلاء وأولئك وانما كان رهاننا على أصوات العقل والحكمة من علماء هذه الأمة لإخماد هذه الفتنة الطائفية التي تشتعل في العالم الأسلامي اليوم ووقودها المسلمون من الشيعة والسنة. نريد علماء مخلصين من المذهبين بامكانهم أن يترفعوا عن هذه الخلافات الفرعية بين المسلمين ويشددوا على ما يجمعنا من وحدة الدين والمصير والهدف. نحتاج إلى علماء مثل الشيخين شلتوت والقمني يبنون على نقاط الإتفاق الكثيرة بيننا في الثوابت والأصول ويتسامحون فيما عدا ذلك من الاختلافات الفرعية الموجودة بين جميع المذاهب الإسلامية. فالصراع في حقيقته ليس صراعا مذهبيا بين السنة والشيعة وإنما هو صراع سياسي على النفوذ بين دول إسلامية تستغل الورقة الطائفية والمذاهب للوصول إلى أهدافها السياسية وعلى العلماء أن يتفطّنوا إلى ذلك ولا يقعوا فريصة لألاعيب السياسة وأهواء الحكّام.
محمد الغزالي، كيف نفهم الإسلام، ص42
فهمي هويدي، التقريب بين الدين والسياسة، جريدة الأهرام, 23يناير ,2001، العدد 41686.
.د.محمد سليم العوا,العلاقة بين السنة والشيعة, القاهرة, سفير الدولية للنشر. 2006. ص 21. انظر أيضا محمد الغزالي, ليس من الإسلام, ص 64.
آية الله خوميني، أنوار الهداية في التعليق على الكفاية، ص43. أنظر أيضا المحقق جعفر السبحاني، مصادر الفقه الإسلامي ومنابعه، ص76.
د.يوسف القرضاوي، مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب الإسلامية، مكتبة وهبة، القاهرة، 2005, ص 38-39.
بقلم: عبدالواحد عبدالله شافعي