الوظيفة العمومية هي مركز التموين برجال الدولة و خَزًانُ الأطر الوطنيين الذين "طَلًقُوا" اختيارا مُغْرَيَاتِ السعي وراء المصالح و المنافع الخاصة وآَثَرُوا "الانقطاع"و التفرغ لتأدية الخدمة العمومية و السهر علي الشأن العام مقابل راتب معنوي أساسي مُجْزٍ و ضَافٍ من التقدير و التوقير و السكن في قلوب الناس و راتب مادي تكميلي لا يختلف اثنان في موريتانيا علي أنه "تحت خط الكفاية"!!.
و قد تدهورت القيمة الرمزية للوظيفة العمومية علي مر العقود الأخيرة بفعل تضافر آفتين أولهما طغيان القيم المادية و إعادة تَرَاتُبِيًةِ المجتمع علي أساس قاعدة "القيمة بالمال" التي جسدت أحد مخرجات انتهاج سياسة "الليبرالية الفوضوية" منتصف الثمانينيات من القرن الماضي مما ألجأ عددا غير قليل من "الموظفين المَهْزُوزِينَ" إلي اسْتِمْرَاءِ الفساد و"اغْتِصَابِ" "شرف مهنة" الوظيفة العمومية لكي يحافظوا علي ترتيبهم في الهرم الاجتماعي الجديد!.
أما ثانية الآفتين فهي إغراق الوظيفة بأعداد كبيرة من "المهاجرين غير الشرعيين" الذين ولجوا إلي الوظيفة تَسَلُلًا و لِوَاذًا من "سَم" "السياسة المتسيسة" و "الصفقات الانتخابية" و "الكِلْيَانِيًةِ الاجتماعية"و"المَرْكَانْتَالِيًةِ الإدارية" و "الكَرَامَاتِ الاستخباراتية"...في خرق سافر للقاعدة المقدسة المقررة منذ سنة 1993 و القائلة بأن "المسابقة هي المنفذ الشرعي الأوحد و الوحيد إلي الوظيفة العمومية".
و لقد استطاعت أعداد غفيرة من هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين الانتساب و التًرْسيمَ في أسلاك الوظيفة العمومية العليا بل إن منهم اليوم من يفوق في الرتبة المهنية و الدرجة الإدارية و "الاعتبارية الوظيفية"موظفين سامين شرعيين" ،دخلوا الوظيفة العمومية غِلاَبًا عن طريق مسابقات شارك فيها وقتئذ أولئك "المهاجرون غير الشرعيين" ففشلوا فيها فشلا ذريعا مُبْكِيًا!!.
وهكذا فقد أدي تَغَوُلُ قاعدة " القيمة بالمال" في مفاصل المجتمع الموريتاني و إغراقُ الإدارة العمومية بجحافل من المهاجرين غير الشرعيين و غياب المعيارية في الترقية المهنية أو الإدارية للموظفين العموميين إلي تدهور "القيمة الرمزية" للموظف العمومي الذي أضحي اليوم في وسط إن لم أقل أسفل الهرم الاجتماعي و المدني بعد أن كان ما يجب أن يكون في ذَرْوَةِ و سَنَامِ المجتمع.!!
و من البراهين علي تدهور القيمة الرمزية للوظيفة العمومية ما توصل إليه أحد الباحثين المدققين الذي أجري مسحا إحصائيا علي التشكلات الحكومية من سنة 1995 إلي سنة 2015 فوجد أن أكثر من 50% من أعضاء تلك الحكومات علي مدي العشرينية الماضية غير موظفين(تجار ،أصحاب مهن ليبرالية، غير مصنفين) و أن أكثر من ثلث الأمناء العامين للوزارات و المدراء العامين للمؤسسات العمومية- الذي هم المسيرون الإداريون للموظفين- خلال تلك الفترة لا يمتون إلي الوظيفة العمومية بأية صلة.!!
و سبيلا إلي استعادة القيمة الرمزية للموظف العمومي أحسب أنه لا مناص من إعداد مقاربة شاملة تعالج أسباب التراجع المذكورة سالفا. لكن من باب الإجراءات الاستعجالية و القابلة للتنفيذ علي المدي القصير أقترح اتخاذ الإجراءات القانونية و التنظيمية لتقسيم كل سلك من الاسلاك المهنية الحالية بالوظيفة العمومية إلي فئتين فئة خاصة بالموظفين المكتتبين عن طريق المسابقة و فئة محددة للمكتتبين بطرق أخري غير المسابقة.!!.
فيُشَارُ مثلا إلي الإداريين المكتتبين بالمسابقة ب(AC) Administrateur par voie de Concours و إلي الإداريين المكتتبين بالطرق الأخري(AV) Administrateur par autres Voies و يجدر التنويه من خلال التغييرات المقترحة إلي أسبقية الموظف العمومي المكتتب سِبَاقًا و غِلَابًا في الترقية و القيادة و الثقة الإدارية و التحفيزات المالية و التوشيحات التقديرية علي الموظف العمومي المكتتب "بطرق متفرقة".!!
و إذا ما كتب لها المقترح أن يري سبيله إلي التطبيق فإن ذلك سيكون لبنة أولي في بناء إعادة الاعتبار و استعادة القيمة الرمزية للموظف العومي الذي تتواتر كل المقاربات التنموية الرائدة و الدراسا ت السوسيو سياسية المعمقة و التجارب التسييرية الناجحة علي أ نه عماد الدولة من أقامه و سواه أقام الدولة و سواها و من ضيعه فهو لما سواه أضيع.!!!