مرة أخرى ينكر الرئيس جهارا وجود ممارسات الرق في البلد رغم أنها بادية للعيان ولا أدل على ذلك من الحالات المقدمة باضطراد من طرف المنظمات الحقوقية المختصة التي لم تسلم هي الأخرى من شرر لامس كل الإطارات الوطنية خارج دائرة الأغلبية، فوصفت بالعمالة والافتراء والتلفيق والمتاجرة. وكأنما نسي فخامة الرئيس أو تناسى نكسات نظامه تحت ضغط التقدميين من الإنعتاقيين الذي أدى به إلى اعتماد "خارطة الطريق" وجعجعة الطواحين التنفيذية والتشريعية، التي أعدت وصادقت و/أو عدلت قوانين عديدة اعتبرناها وإن بعد حين اعترافا ضمنيا بوجود الظاهرة وتكفيرا عن الإنكار. ولكن سرعان ما اتضح أن ذلك لم يكن سوى مناورة بخسة لذر الرماد في أعين الغرب لاستعطافهم وابتزازهم عبر برامج تنموية وهبات باسم القضاء على العبودية في السبع العجاف. أما نحن العبيد وأبناء العبيد، نحن الحراطين فيكفينا، أو هكذا يظن الرئيس، قرون السلب الخالية التي قدسنا فيها الأسياد إلى حد تأليههم – سامحنا الله وإياهم – لنبقى جاثمين مدى الحياة مرتكنين إلى معجزاتهم الخرافية وبركاتهم السفسطائية التي هرمنا بحثا عنها في لعباهم المتطاير وتحت أقدامهم الخشنة متمثلين: "جنة العبد تحت أقدام عربيه". لم يفهم السيد الرئيس أن الزمان ما عاد زمان السَّيْبَ وهيمنة الأسياد ولا العبيد نفس العبيد لأنهم تعلموا من معاناتهم النضال فتفقهوا في الحقوق والتشريع. فالقوانين وما شاكلها من مساع للقضاء على العبودية كل ذلك لم يأتي منة ولا شفقة في عهد ضاعت فيه الإنسانة، بل جاء نتيجة ملحمة تحرير مريرة أبطالها الحراطين أجبرت الحاكم على الرضوخ والامتثال. وبنفس العزم والتصميم يتواصل النضال ضد كيد الممانعين الحانقين من الاستعباديين المارقين عن شريعة رب العالمين المتجاهلين لسماحة الإسلام دين الرحمة والعدالة والمساواة حتى تطبيق المنظومة القانونية وتكريس روحها كاملة غير ناقصة. وفي هذا الصدد أُؤكد أنه لم يفاجئني مطلقا أن عاد رئيس الدولة وكرر نفيه للعبوديةلكن ما نفع انكار العبودية وقد قام اشهادها فحكمت المحكمة المختصة على ارض النعمة بثبوت حالات لا مراء فيها ام ان وصية السلف في الأنظمة الإقطاعية المتعاقبة على السلطة منذ "استقلال" البلد، تلزم الحلف بالقول: ما زلنا على الدرب سائرون وإنا بصوت الضمير لكافرون وبأنات الرقيق مستهزئون مادام "الركاب" و"الكتاب" قائمان.
***
ككل أسلافه من الرؤساء، خنع الرئيس لتقاليد الأنظمة الموريتانية وأنكر في النعمة والناس قيام أي وجود للرق رغم شواهده الجلية كشمس الظهيرة في كبد السماء. فلم يقر إلا بمخلفات غنية عن اعتراف كائن من كان، لأنها بادية في السكن والمعاش والتعليم والتعيين ورخص الصيد والبنوك والمعادن، بادية في كل ما يرجع توزيعه إلى الدولة، فالمخلفات سمة من سمات التمييز السلبي لأن التمييز الإيجابي غائب عن معجم حكامنا وحكوماتنا. تحدث الرئيس محمد ولد عبد العزيز فباح بما يوافق إرادة النظام التقليدي المتماهي مع منطق الدولة العميقة وهواجس وتقديرات الحكومة. ومكمن الغرابة هو الاعتراف بوجود مخلفات للعبودية و في نفس الوقت تحميل مسؤلية وجودها للضحايا وكأنهم من اختاروا لأنفسهم هذا الواقع الموبوء والمذل. فصدور مثل هذه الأحكام من قبل رئيس الجمهورية ينم عن مواجهته لنصف شعبه ومناصبته العداء لهم. فَأَّنَّى للمن جُهِّلَ عمدا وفقر قسرا وروض حتى النخاع أن يفرق بين الصالح والطالح والحرام والحلال والخير والشر والجيد والسيئ . فقد كان من الحري برئيس الدولة أن يكشف للرأي العام عن إستراتيجيته في القضاء على مخلفات الرق وتخليص ضحاياه من الأمية والتجهيل والتفقير والدونية والتهميش والإقصاء الممنهج التي تقاسم ظلم الدولة "الوطنية" واضطهاد أسيادهم السابقين – بالمختصر المفيد حسب قاموس الرئيس –شحذها وفرضها عليهم. أليس من الظلم أن يطالب الحراطين فجأة ودون سابق إنذار رغم ما عاشوه من كبت وحيف أن يكونوا مثل غيرهم، وكأن تغيير العقليات والعادات شأن ساعة ومسألة وحيف د عبد العزيز الحراطين ن المعجبدواةمزاج. وهنا يطرح سؤالان اثنان نفسيهما: هل كانت الثقافة يوما عائقا أمام دمج غير الحراطين ؟ ولماذا لم تشترط المؤهلات في توظيف غيرهم ؟ ومهما يكن من أمر فلا يمكن لمتعلم مهما بلغ قصوره الثقافي وجهله لمجتمعه أن ينكر حجم معاناة الحراطين إلا ضمن أجندة خاصة تمثل فيها النعمة مرحلة جس النبض وتحضير الرأي العام لما هو آت، وأغلب الظن أن ذلك هو محض الحقيقة. فلا شك أن محمد ولد عبد العزيز ومنظريه من أباطرة الإقطاع الجديد أوشكوا على الدخول في مخطط واضح المعالم والأهداف. و لو لم يتم بعد الإعلان عنه بكشف المستور، فيكفي لذلك استحضار تصريح الرئيس عشية 28 نوفمبر 2015 حينما تساءل قائلا "من هم الحراطين" قبل أن ينفي أي وجود لهم اليوم. وتأتي هذه المأساة بعد نكسة أخرى بطلها مولاي ولد محمد لقظف عندما صرح لجريدة خليجية بأن الحراطين ليسوا سوى أقلية وهو ما لم يتورع فقيه موريتاني عن ترديده في حلقة تلفزيونية ليصبح الحديث عن الكم الديموغرافي للحراطين هو مربط الفرس. إن استهداف الرئيس محمد ولد عبد العزيز وغيره للحراطين يعد استهتارا ينم عن عقدة حقيقية ينتجها التأثر العميق بالتراث الجمعي لملاك العبيد المُشَبَّعِ ازدراء ومفاهيم جوفاء، مغلوطة، مزورة ومتحيزة. وفي ظل عجز الرئيس عن التحرر منها فإنها تطفو في كل مرة يتحدث فيها عن الرق ومخلفاته معكرة صفو الوئام الاجتماعي المترنح... فلم ينفع في ذلك للأسف مقتضيات ومبادئ القرن الواحد والعشرين التي لا تؤمن بالدونية والتراتبية على أساس الأصل والفصل واللون... في السنين الأخيرة لوحظ توجه مريب لمراكز ومراصد الدراسات والبحوث والقنوات الإذاعية والتلفزيونية العمومية والخاصة يركن لشحن عواطف "البيظان" وإثارة التوجس من مطالب الحراطين المشروعة في المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية والعسكرية. وتمت أَدْلَجَةِ الندوات والبرامج وتوجيهها بالتركيز المريب على مواضيع عنصرية تعد بطبيعتها إقصائية واستفزازية لبقية مكونات الوطن الأخرى. وخير مثال على ذلك في المجال الإعلامي "خيمة الدد" في "الموريتانية" و"حياتنا" منت اسباع في "الوطنية"… وقد وصل بمنظري الاختطاف الفئوي العرقي للوطن من الهوس والانطواء النفسي الممزوج بالغرور والنرجسية حد اختزال "موريتانية وتنوعها ومصالحها " في "أحادية البيظان النمطية" المتغولة الناكرة لخصوصيات الآخر. فلم يعد من حديث يشغل مثقفيهم العضوين سوى "تاريخ البظان"، "اتْبَيْظِينْ"، "أغن البيظان" حتى اللهجة التي عهدناها بالأمس القريب"كْلاَمْ حسان" أو "الحسانية" اختصارا والتي لم ترتبط يوما بلون أصبحت في طرفة عين "كْلاَمْ البيظان". أما الغريب والخطير في هذا كله إصرار المرجفين من سدنة القومية الجديدة على التضحية بوحدة الوطن وحوزته الترابية واستقراره لفتح الباب على مصراعيه لكل التجاذبات الجويو سياسية وحسابات تعيد للذاكرة بل تبرر أسباب المطامع المغربية في موريتانيا إبان الخمسينات من القرن الماضي باسم وحدة الثقافة والتاريخ. فما من منطق يفسر ويبرر اليوم اهتمام هؤلاء الزائد بمشكل الصحراء الغربية وآزواد وحتى الهوجار في شمال النيجر سوى التيمن بـ"تْرَابْ الْبِيظَانْ" التي خامر حلمها الرئيس المختار ولد داده حينا من الدهر لدوافع ومقاصد هو أدرى بها ثم تخلى عنها مكرها لأسباب الله تعالى أعلم بها. إن خطاب وقاموس هذا التوجه المشبع بالعنصرية والشوفنية، الذي يتوجس أصحابه خيفة من التنامي المطرد لمطالب الحراطين في الاعتراف لهم بكامل حقوقهم وخصوصياتهم لأن ذلك يمثل في نظر هؤلاء حجر عقبة في وجه تحقيق مشروعهم وطموحاتهم ، استطاع التسلل إلى مفاصل النظام وقبة البرلمان ووسائل الإعلام الرسمية والخاصة على حساب القضايا الوطنية العادلة. وهنا نطرح جملة من التساؤلات. لماذا هذه الهرولة المتسارعة الخطى ؟ وما الغاية من الزج بالبيظان، خاصة، وموريتانيا، عامة، في قضايا جيو إستراتيجية وإقليمية مثل هذه؟ فلا يمكن، في اعتقادي، اتخاذ مثل هذه التوجهات والقرارات إلا في ظل وجود حسابات دقيقة ورغبات دفينة لأصحابها، وهو ما يدعم في هذه الحالة صحة اتهام البعض للدولة بأنها دمية تحركها أيادي منظري المكونة الواحدة لتأتمر بأوامرهم وتنتهي بنواهيهم. ولنا أن نلاحظ أنه بعد سنين من إنكار حقيقة أن الحراطين يشكلون لوحدهم ما يربوا على 45 % من سكان البلد بدأ المثقفون العضويون منذ وقت قريب يركزون على الكم الديموغرافي للمكونة مؤمنين أنه أصبح يشكل مصدر قلق وإزعاج إلى حد لم يعد من المكن تجاهله. ولأن مخطط تذويب وامتصاص الحراطين فشل تماما، كما لم تنفع جميع مناورات الجماعة المسيطرة كان لا بد من حبك حِيَّلٍ جدية وهو ما تم بالفعل حيث أخذ الرئيس على نفسه مسؤولية التحضير والإخراج التي تمثلت في المشهد الأول الذي تميز بالإساءة التي شهد عليها جميع الموريتانيون بمختلف مكنوناتهم اللغوية والعرقية. تحدث ولد عبد العزيز فأفضى – ربما عن غير قصد – عن ما يجيش بخاطره من خوف وكراهية ونقمة يضمره للحراطين. قال الرئيس "ما أكثركم، يا معشر الحراطين". أو هكذا قال كي لا أكرر إساءته. رفقا بي وببني جلدتي من العبيد والعبيد السابقين، ورفقا أيضا بالأخيار، من الموريتانيين الأحرار بالتقدميين من الأسياد الآسفين النادمين وأولئك الأبرار من بني وطني الذين لم يكتب عليهم التاريخ أن اتخذوا البشر رقيقا لكل هؤلاء الذين وقفوا شجبا وإدانة لتصريحات الرئيس التاريخية بكل المقاييس لا لدرس سجلته ولا لعبرة أعطتها ولكن لهزة يندى لها الجبين أحدثتها. ولأن الفعلة قد تمت مع سبق الإصرار والترصد، فإن الرئيس، في هذه الواقعة، وعكس عادته، قد أسرف في الحديث متحاملا على الحراطين دون أن يتلعثم أو يتشنج مما يؤكد أنه كان مُحَضِّرًا بما فيه الكفاية وواعيا لكل ما قاله. وعليه فمن الواضح أن قصده لم يكن إنكار الرق ولا الاعتراف بمخلفاته كما ورد في حديثه حينما تحدث عنهما لأن موقفه في هذا الشأن معروف سلفا وجلي إلى حد أنه لم يعد ينطلي إلا على الغبي أو المنكر. بالفعل كان قَصْدُ الرئيس في حديثهَ أن يعبر عن قلقه المتنامي شأنه في ذلك شأن مفبركي فكرة الفئة ألإقصائية التمييزية الفاشية من تنامي عدد للحراطين المضطرد. وهنا يأتي تحضير الرأي العام لحل يتمثل في تحديد النسل يستهدف خاصة مكونة الحراطين ضمن إستراتيجية فجة ورخيصة ومكشوفة سنتعرض إليها بالتفاصيل سابرين أغورها في المقال القادم بإذن الله.
عثمان ولد بيجل