الحمد لله رب العالمين عليه توكلت و إليه أنيب
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبي الهدى، وعين الرحمة الفياضة بالأنوار والقيم والمثل والكمال البشري... محمد بن عبد الله، النبي المرسل، الرمز، حامل أيقونة الوحي السماوي، ناشر الحب والسلام والحياة والأمل والتفاؤل والبشر والخير، الرجل الذي كان أمة، وبجهاده ونضاله من أجل البشرية يغرف كل مناضل من القيم ما يشاء ، غرفا من البحر أو رشفا من الديم..
السلام عليكم أيها السادة و السيدات، أصدقاء باهي ،
بداية أصالة عن نفسي و نيابة عن آل بابانا، أعبر للقائمين على هذه المبادرة القيمة و التظاهرة الكريمة عن خالص ودي وتقديري و إعجابي.. أشكركم واحدا واحدا.. كل باسمه و جميل وسمه وأهنئكم على أخلاقكم الفاضلة و إخلاصكم و وفائكم، وستذكر الأجيال اللاحقة أنكم كنتم دائما على الموعد مع الخير و الوطن.. وأنكم رجال أمانة، وقادة نضال من أجل الحرية والحياة الكريمة.. و اسمحوا لي هنا أن أخص بالذكر و الشكر و التنويه و التبجيل صنوي باهي محمد، معالي الوزير الأول الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي و الأستاذ الفاضل عباس بودرقة حفظهما الله و أطال بقاءهما ،لما بذلا من معروف و أيادي بيضاء في جنب المرحوم باه ولد محمد حرمة. و من لا يشكر الناس لم يشكر الله.
أيها الأصدقاء الصادقون الصديقون، ربما أكون آخر من جالس و رأى حيا ابن خالي محمد فال بن محمد حرمة الملقب "باهي محمد". هاتفني ليخبرني بالوعكة الصحية التي ألمت به و تطلبت حجزه بإحدى مصحات الدار البيضاء. هرعت إليه مسرعا و مكثت معه من بعد صلاة العصر إلى غسق الليل. وجدته مرتاحا لا تبدو عليه علامات المرض، لا جزعا ولا فزعا، نضر الوجه، باسم المحيا، تغشاه سكينة الصالحين. كانت أمسية شيقة و جلسة طيبة، و ذكريات من الزمن الجميل، ليت شعري هل تباع اليوم فتشترى. تعرض خلالها المرحوم لبعض المحطات من حياته و مسيرته و طفولته و أبدى كثيرا من الأسف على ما أسماه تقصيرا في حق ذويه و أنه لئن شفاه الله من سقمه ليؤلفن إحقاقا للحق كتابا عن حياة الوالد الزعيم حرمة ولد بابانا و ليزورن البلاد لصلة ما أمر الله به أن يوصل من أرحام أحياء و أموات. غادرته ليلا، و قد صممنا العزم على مغادرة المصحة من الغد و السفر سويا إلى باريس لتلقي العلاج... فإذا بالخامسة صباحا هاتف من غياهب المجهول ينعي إلي العزيز باهي محمد. لقد كانت المشيئة الربانية أنفذ و أسرع من إرادتنا، فعاجلتنا الروح إلى باريها، و قد "بلغ الكتاب أجله"... و قضى الرجل نحبه... و قد توفاه الله على نية سليمة، طيبة، نسأل الله الرحمن الرحيم أن ترجح كفة أعماله الصالحة، فالأعمال بخواتمها.
اليوم في هذا المحفل البهي الرمزي النضالي القيمي.. الذي ينظمه أهل الوفاء و الإخلاص و القيم الفاضلة "حلقة أصدقاء باهي"، و كلنا أصدقاء لباهي، جئتم لتؤدوا الأمانة..لأن الله يسأل عن صحبة ساعة... جئتم لتؤدوا واجب الشهادة...و الله تعالى يقول: "و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فإنه آثم قلبه"...واجب شهادة في رجل كان بمثابة أمة.
اسمحوا لي فلن أتفرد بينكم باستثناء في هذه المناسبة، فلا تؤاخذوني إذا تعثرتُ.. فقليلة هي الخيول التي تنجو من الحواجز التعجيزية. فأن نتحدث عن " الباهي محمد حرمة "، بما يستحق، فذلك تحد فولاذي ليس من السهل كسرهُ دون اجتراح معجزة، في هذا الزمن الرديء و هذا الزمنِ الثقافي البائس.
أيها السادة، أيتها السيدات،
القمرُ جميل لأنه وحيد، متفرد، سابح في فلك العلو والسمو والارتقاء، يمنحُ الناس النور، لكنه يمنحهم الأهم وهو الإحساس بالجمال الداخلي، ذلك أن القمر يوقظ إحساسا في النفس لا توقظه كل المخلوقات الأخرى باستثناء أولئك الذين امتلكوا روحا قمريا يرفرف على شكل حروف ومعاني ونضال وقيم وحضارة.. لقد كان الراحل العزيز " باه ولد محمد حرمة" روحا قمريا.. بكل ما تحملُ المعاني من إحالات ورمزية.
لقد كان عبقرية فذة الخصال، صادق النضال، والقلم السيال..
حاضن الفكر الأصيل، و الإنسان النبيل،
إنه رجل خُلق ليهب حياته لمسيرة البشر المثلى.. مسيرة الحبر والعرق..
رجل يزرعُ الفكر بحبره.. ويطفئ الحرائق بماء عرقه.
أيها السادة و السيدات، لم يكن باهي محمد حرمة بدعا من الرجال الاستثنائيين الذين أنجبتهم بلاد شنقيط ذلك "المنكب البرزخي" و "المنتبذ القصي" و التي عرفت أياما كانت فاصلة في التاريخ... وقف وراءها رجال أفذاذ من صنف باهي محمد حرمة.. حين اجتمع المرابطون في "تيدرة"، فأسسوا الرباط.. حين قرروا نجدة عرب الأندلس فانتصروا في "الزلاقة".. وتركوا قصر الحمراء لأمراء المال العام.. حين كانت سنابك خيل الحاج عمر الفوتي و الشيخ ماء العينين تزلزل الأرض جهادا وإباء... حين سدد ولد مولاي الزين رصاصته إلى الغازي كبلاني... حين وقف الزعيم حرمة ولد بابانا شوكة في حلق المستعمر الفرنسي... وكل حين عندما اتخذوا ظهور العيس مدرسة يبينون بها دين الله تبيانا..
إن الحديث عن رجل استثنائي يتطلب كلاما استثنائيا، وإن اللغة تتجمد عند حدود الكبار، فهي تعرف أن لها مقاما لا تتعداه.
لقد كان الغائب الحاضر يؤمن أن "الأحلام لا تُزهر في حقول الحذر"، ولم يستكن يوما للعروض التطبيعية مع الواقع، لأنه أدرك أن "وفرة الظل لا تعني نهاية الصداع"، كما أن "تلاشي الدخان قد يعني أن النار بلغت أوجها".
لقد كبر الرجل كما تكبرُ الأحلامُ، وجسد معنى البطولة والشجاعة والرجولة في كل مواقفه ومراحل نضاله الذي استمر حتى بعد موته في تلك "الحروف" الصادقة التي تتنبلُ منْ معين معدن الرجال.
لقد عاش بين ثنائية البندقية والقلم في "جيش التحرير" و"الجزائر"، ثم حزم حقائبه إلى بيروت و دمشق و بغداد ليخدم الوحدة العربية عبر الأثير والحبر.
وفي كل مكان، كل محفل، كل مقهى، كل طاولة، وكل عاصمة في الشرق والغرب ظلّ يمثلُ "عروبة البدوي الأصيل"، عروبة الجذور النقية.. وبلغة شعر الشَماخ، ومالك بن الريب المازني التميمي، والأعسر البقمي، والخطيم بن نويرة العبشمي، وصخر الغي، وأبو النشناش النهشلي، وبالطبع امرؤ القيس وطرفة ابن العبد والمتنبي.. ومن أسلمتْ لهم الضادُ باب خِدرها.. وهي تميس بين القرون الشهباء.
كيف أتحدث هنا عن فرد من أسرتي.. عن "أعزب الطهارة"؟.. عن طفل علوي أوشك أن يختمَ أوردة الحبر، لولا أن الشمس لا تحرم من ضوئها حتى الخطائين.
أيها السادة، اعذروني، ثمة دائما مساحة لنبتسمَ في مواجهة الجرح.. ولقد شهد عبد الرحمن منيف صاحب "مدن الملح" أن ابن خالي كان "ملح الحبر" وكان يخطط لتسوية مشاكل العالم في غرف المصائر المؤسسة.
أيها السادة، لو أنكم شاهدتم الخيمة الوبرية التي ولد تحتها "الباهي"، والكثبان الرملية التي عاش بينها، و"العقل" التي رعى حولها العيس، وحفظ أنساب العرب، كما حفظ مواقع نجوم الفلك.. لعرفتم أن الرجل كان أكبر من "مغامرة عقلية"، وأوسع باعا من مرايا الأفق، وأغنى صفاء وأملا من المزن التي تخضب سماء الفلاحين.
لقد كان "الباهي".. بندقية وقلما.. ولم يكن بإمكانه الحياد في المساحات الوسطى. هكذا كان رب موقف، وصانع جرأة، و مجترح حلول.. كان آخر الكواكب التي تشرق أكثر في الانطفاء..
إن أهل الأرض لا يعزون فيه، ولكن يهنأ به أهل السماء..
وأخيرا، يمكن أن أحدثكم قليلا عن أول عهد للرجل بالأرض..
لقد ولد تحت خيمة وبرية على كثيب رملي في خلاء ، وتحديدا في صحراء "تنبيعلي" ، في حي من "العلويين" الذين لم يمنعهم وجودهم في هذا "المنكب البرزخي"، في تلك البقعة الصحراوية من الانتساب إلى التألق علما وصلاحا وفتوة.
وهكذا ليس غريبا أن يستقبل اليتم "علويا"، كما كان الوضع مع "باه ولد محمد حرمة " الذي تيتم صغيرا، ولقد كشف الصبيّ الصغير اليتيم أنه حالة استثنائية بين أقرانه الذين لا تنقصهم الموهبة والقدرة الفذة على استباق مراحل العمر.. وتلك عادة قديمة في هذه السلالة "الشِعَبية".
وحين يتم كفله ابن عمته الزعيم أحمدو ولد حرمة ولد ببانا.
"محمد الباهي" كان في الخامسة من عمره ـ بشهادة معلمته عيشة منت عبد الودود ـ يحفظ نصف حزب من القرآن كل يوم.. ومن خلال قراءته مرتين أو ثلاثا على أكثر تقدير وبسهولة تشبه خرق العادة.. فقررت معلمته أنها لا تستحق أجرة على عمل لا تبذل فيه جهدا.. إنها امرأة قرآنية تعرفُ رحمها الله حدود الأجرة والأجر.. وتلك قصة أخرى.
لقد بهر الصبي مجتمعه بذكائه و فطنته و نبوغه وبقوة حافظته.. وهكذا حصل قبل الثانية عشر من عمره كل المتون المعروفة في بلاد شنقيط، وكان يحفظ عن ظهر قلب جميع دواوين الشعر الجاهلي و الأموي والعباسي ودرس النحو والمنطق والفلك وعلوم أخرى.
يمكن القول إن الصبي "محمد الباهي" كان قبل بلوغ الحلم مكتبة تمشي على قديمها أو جامعة متنقلة في صورة شخص... لم ينتسب للمدارس النظامية للمستعمر الفرنسي ممانعة ثقافية منه، وأيضا لانشغاله بالتعلم المحظري، لكنه تعلم اللغة الفرنسية لوحده فأصبح يتقنها.
غادر "المنتبذ القصي" وهو ابن الثامنة عشر ليلتحق بابن عمته الذي كان بمثابة والده، الزعيم أحمدو ولد حرمة ولد بابانا بمدية "سنلويس" عاصمة السنغال، وكان وقتها نائبا بالبرلمان الفرنسي. رافقه و عاش في كنفه.
سنة 1956 غادر الزعيم حرمة ولد بابانا موريتانيا في الظروف والملابسات المعروفة (حكم بالإعدام في فرنسا و حكم بالإعدام في موريتانيا)، فلم يتحمل أباه هذا الفراق وضاق به ذرعا، ولما استقر الزعيم حرمة ولد ببانا بالمملكة المغربية المحروسة صمم أباه العزم على الالتحاق به مهما كلفه ذلك، و رغم الرقابة المشددة الممارسة على الأسرة. وبعد محاولات فاشلة قرر أباه خوض مغامرة خطيرة.. لقد رصد وتسلل خلسة بمرسى Port-Etienne ـ نواذيبو حاليا ـ إلى باخرة صيد إسبانية متجهة إلىCAP-JUBY "الطرفاية". لكن طاقم الباخرة عثر عليه أثناء الرحلة فهموا برميه في البحر وبذكاء وشجاعة وأنسنة تمكن من إبرام "أول صلح لرجل صحراوي في البحر".. لقد قايضهم بأن يخدمهم أثناء الرحلة، فتكفل بتنظيف المطبخ وغسل الأواني وصيانة المراحيض، على أن يغادرهم عند محطتهم المقبلة .
نزل ب"الطرفاية" وواصل مسيرته باتجاه مدينة "كلميم" حيث يقوم حرمة ولد ببانا بتأسيس جيش التحرير لتحرير الصحراء المغربية و موريتانيا من الاحتلال الإسباني و الفرنسي. فكان من أوائل المنخرطين في صفوف جيش التحرير.. وبعد ذلك أنتم تعلمون من كان الرجل وماذا فعل.. من نضال.. وماذا بث من فكر.. وماذا اتخذ من مواقف.. ولكن ، وهذا لا يقل أهمية، ماذا فعل للثقافة العربية التي كان رافعة لها في عاصمة النور. وهو دور لم ينل ما يستحق رغم "الإشارات" الصادرة من هذه القامة الثقافية أو تلك.
أيها السادة هذا يوم باه.. في ذكرى "الباهي".
ويبقى الأمر من قبل ومن بعد لله. و له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم و إليه ترجعون.
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا..
الرباط في 3 يونيو 2016