كثر الحديث في الآونة الأخيرة، ولأسباب موضوعية، عن قناة المحظرة التي تعتبر أول جامعة تعليمية دينية تبث عبر الأثير عربيا وإفريقيا. وإنني- انطلاقا من الأهمية العالمية المتنامية لهذا الصرح العلمي الفريد- لأنحو إلى تقديم رؤية مختصرة لما يجب أن تنبني عليه استراتيجية قناة المحظرة مستقبلا؛ كي تواصل عطاءها الثر، وتكمل مشوارها المتميز على شتى الأصعد، تمشيا مع الأهداف الكبيرة التي تصورتها الدولة الموريتانية عندما أخرجتها من العدم، بكل معانيه، إلى النور في كل تجلياته. وهو ما كنت شاهدا عليه وواكبت جميع تطوراته منذ أن دشنها رئيس الجمهورية، السيد محمد ولد عبد العزيز، في الثالث من مارس 2013.
لا شك أن قناة المحظرة وُجدت أصلا لكي تحارب التطرف الديني عسى الشباب والأجيال الناشئة تجد الحاضنة الدينية القادرة على تزويدها وتسليحها بما يزخر به الدين الإسلامي من قيم التسامح ومبادئ السلم وأواصر المحبة.. في ظل خريطة دولية زعزعت أركانها التفجيرات والاغتيالات والاختطافات وسط صرخات التكبير وبـ"مبررات" دينية. إنها فكرة جد عظيمة ونبيلة ما دامت تسعى إلى ملء فراغ الشباب بالعلوم الشرعية النافعة، وبالفقه الحامل بذور التعايش، وبالمأثور المبني على حب الخير ونبذ العنف والتدليل على ذلك بالحجج الثابتة دون الركون إلى التأويلات والفتاوي الشاذة.
من هذا المنطلق، فإن قناة المحظرة، التي أصبح لها آلاف المشاهدين في المغرب العربي والخليج وحتى غرب إفريقيا (من خلال البرامج المعدة بالولفية والبولارية والسونينيكية)، لابد أن ترافق وتطبق سياسات الدولة الرامية إلى نبذ العنف وإعادة الاعتبار للتسامح الديني من خلال إعداد المناهج وإعطاء الأولوية للرجال القادرين على بلوغ الهدف وإبلاغ الفكرة، خاصة أولئك المحببين الله لعباده والعاملين بالنصح في أرضه.
فمن جهتهم، يجب أن يتحلى المقدمون بالشكل اللائق المقنع وبقدر لا بأس به من الأصول والفروع، ومن أسس اللغة، ومن أدبيات الإعلام؛ كي يتمكنوا من استنطاق الضيوف بما يفيد في تحقيق الأهداف.
ومن جهتهم، يجب أن يكون الضيوف من خيرة العلماء والفقهاء والمشاركين (إن هذا العلمَ دينٌ فانظروا عمّن تأخذون دينكم)، وأن يكونوا على وعي بالمطلوب منهم (ولو تطلب ذلك جلسة شروح قبل كل برنامج أو مقابلة)، فلا يكفي أن تكون مالكيا أشعريا، ومتصوفا جنيديا لكي تتماشى مع الفلسفة العميقة التي من أجلها تم إنشاء قناة المحظرة، بل لا بد أن تتشرب من المضامين السامية للفكر الاسلامي المعتدل، وأن تكون لك القدرة على مواءمة سلمية الاسلام مع ما يصدر عنك من دروس وأدلة وفتاوي؛ لأن هذه القناة أصبحت، أو هي في طريقها لأن تكون المُعَلم الأول لملايين الشباب المغرر بهم بالفهم الخاطئ المنشور عبر آلاف الوسائط الإعلامية المنتشرة على شبكة الانترنيت.
وليس لهذه القناة أن تكون ضيقة الأفق لأن المطلوب منها هو المحاججة بشكل مباشر وغير مباشر، وبالتالي لابد لها من أن تناقش، بطرق ماهرة وحكيمة، أصحاب كل تيار ديني متزمت أو متطرف لتصدهم، بالكلمة الطيبة، عن منهجهم (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، ولتعيدهم إلى الصواب بما يحافظ للإسلام على صورته الناصعة ويضمن الاستقرار والتنمية والسلام في بلادنا وفي العالم بأسره.
ولعله من واجب قناة المحظرة أن تضاعف من دروس المتون والاحمرارات والحواشي، وأن تكون ميدانية أكثر فتنجز ريبورتاجات داخل المحاظر الكبيرة وتلك البعيدة، شأن القرى والحواضر البدوية النائية، لأن تلك الفضاءات ما تزال تحافظ على دين إسلامي غير مشوب بالأدلجة العنيفة، وغير متأثر بالفكر الصدامي المستورد، ولن يتسنى لها ذلك إلا من خلال إعداد برامج من قبيل: "جلسة مع عالم" و"سهر مع التلاميذ" مما سيمد المشاهدين بفقه هذا العالم أو ذاك، وبزهده وصلاحه ونمط عيشه، وبمثابرة أولئك التلاميذ وسمرياتهم العتيقة وتراشقهم بالمسائل العلمية وطريقة درسهم ومكابدتهم قساوة الظروف وشظف العيش.. تلك الأجواء التي ينعم أهلها بكونهم مفاتيح للخير مغاليق للشر.
كما أنه على المستنيرين، من باب التعاون على البر والتقوى، وإيمانا منهم بالمصلحة العليا للبلد، أن يساعدوا الدولة في إنجاح استراتيجيتها الدينية على شاكلة استراتيجيتها الأمنية التي نجحت بالفعل في ميدان التصدي للغلاة والمتطرفين. وإذا كانت جلسات الحوار المشهورة قد صححت المسار ورجع بها كثيرون عن فكرهم المتزمت، كجزء من الاستراتيجية الدينية لمواجهة التطرف، فإن السند الأول لتلك الاستراتيجية يظل، بالأساس، قناة المحظرة. ومن هذا المنطلق يكون من واجبنا مرافقة هذه القناة بالنصح، ورسم المنهج، وتكوين الكادر، وتصحيح المسارات، وتحاشي المطبات والعراقيل التي يضعها أمامها أعداء الوسطية الدينية والمسالمة واللاعنف. دون أن ننسى أن ما بدأ يتصاعد في بلادنا، بوتيرة سريعة، من فئوية وهويات ضيقة قد لا يجد دواءه الشافي جدا إلا من خلال قناة المحظرة التي تعتبر الرافد الأول للوحدة الوطنية بما تبث من دروس جامعة وقيم جامعة وقضايا دنيوية وأخروية جامعة.
إن توسيع استراتيجية من هذا القبيل، ونقاشها وتحسينها على يد المعنيين، من رسميين وعلماء ومتخصصين وفنيين، سيكون بمثابة المنقذ الحامي، شكلا ومضمونا، لهذا الإنجاز الضخم من كل ما يتربص به من أسباب الزوال لأنه كان، وما يزال بلا شك، فكرة غير مسبوقة لعلاج ناجع فعال لكل ما نعانيه ويعانيه العالم من ويلات التطرف والفئوية.