إن ضعف حضور الوطن في يقظة الضمير و غياب ثقافة السلوك القويم في مسار المدنية، و بعدٌ استحضار المستقبل المشرق في أحضان الحاضر هي حواجز ستظل سميكة و عواقب كأداء أمام ترسيخ كيان الدولة و إعداد المواطن لاستيعاب مفهومها و مد الصلة الوثيقة لا انفصام فيها بينهما.
إن المتتبع للحراك المدني من حولنا و المهتم بما يحققه من تطوير مذهل في العقول و المحيط لا بد أن يلحظ السرعة و الحيوية القياسيتين اللتين تتغير بوتيرتيهما ملامح بلدان الجوار على غرار ما يشهده العالم الآخر في دائرة العولمة الأكبر من تلاقح التجارب و تكامل نتائجها على أرض الواقع على وقع قلب جديد يدق بضربات منتظمة لا تتوقف و يضخ باستمرار دماء نقية جديدة. و بالطبع فإن واقع حالنا عن مفاهيم الحداثة ـ مجسدا في تعمد عقلياتنا الرابضة في جلباب الماضي التأخرَ و تداعياته الكابحة ـ هو العامل الأول لقيام هذا الواقع الذي لا يبرره منطق و لا تقبله ذريعة.
إن الذي يكون من التناقضات الكبيره و الخطيرة هو ما يزيد حجم و وقعَ هذا التأخر المزمن و يبرر مآلاته السلبية و انعكاساته المأساوية على الحركة التنموية و يزيد فيه وطأة التباين بين كافة فئات و مكونات و شرائح الشعب. و إن بين هذه التناقضات التي لا يمكن لأي واقع أن يغطي عليها إلا ما يكون من عمل منهجي علمي و حكامة متنورة صارمة و إشراك كل القوى الحية في دائرة رفع التحديات و محاربة رواسب العقليات المقيدة ما هو صارخ كـ:
· امتلاك البلد لمقومات البناء من الخيرات الوفيرة التي تضم مقدرات كبيرة من معادن الحديد و خامات النحاس و مناجم الذهب، و ثروة حيوانية من اهم ثروات القارة، و أراضي زراعية على ضفة نهر جار و مطرية على أراضي خصبة و تحت واحات نخيل لا تعد إلى جانب ثروات أخرى سمكية متنوعة و من أكبرها عالميا و نفط و غاز في شاطئ البلد الممتد أزيد من سبع مائة كيلومتر من المحيط الأطلسي الاستراتيجي،
· و عدد المواطنين الذي لم يصل ـ بحسب أخر الاحصائيات ـ الأربعة ملايين نسمة بجميع مكوناته البلد الأربعة التي ظلت تتعايش بثقافاتها العربية الغالبة و الزنجية الافريقية الـ"بولارية" و الـ"سوننكية" و الـ"ولفية" و بميزاتها الخاصة و تتقاسم جميعها الدين والوطن والتاريخ والجغرافيا والمصير المشترك و الكثير من القواسم الحضارية الأخرى ما افترضَ إيجابيا في بعده الثقافي عملية تثاقف مستمرة في الزمان و المكان، و فَرَضَ دينيا ضرورةَ النصرة وتحقق الأخوة الدينية والوطنية، و تشترك في المعتقد الواحد و هو الإسلام و قد ظلت إلى وقت قريب في انسجام و تناغم بعيدا عن الخلافات المزمنة. و قد كان حريا بهذا الوضع المتميز و يُفترض بهذا العدد القليل من السكان على أرض معطاء أن يخلقا و ينشرا و يحققا عدالة ممكنة و شاملة في توزيع خيرات البلد و بناء و تشييد بنى تحية تلبي حاجة تنميته التي تتوفر لها من المقدرات ما يفيض عنها و من الخيرات المتنوعة و الطاقات البشرية ما هو كفيل بالوصول إلى أي هدف يتم رسمه و تحديده،
· و أعداد المتعلمين بمستويات علمية عالية و فنية في كل المهارات و في العلوم الإنسانية بكل اختصاصاتها، أعداد بلغت أرقاما تكاد تزيد على حاجة البلد لقيام نهضة حقيقية و إرساء قواعد تنمية شاملة تقذف بالبلد إلى المواقع الأمامية في شبه المنطقة و القارة.
لكن وجه التناقض الذي حال و يفعل دون حصول ذلك على نحو مبكي و مؤلم لحد تبرير تشاؤم و امتعاض له ضرير في بعض قواعد من المستضعفين، يظل ينحصر جملة و تفصيلا في:
· سوء تقدير أزيدَ من نصف قرن ـ بدأ مع رعيل الاستقلال الأول، لخيرات البلد الوفيرة ـ و سيئ تدبير لما تدر به، و ضعف إحاطة بالمقدرات المتنوعة و عجز عن التحكم في تسييرها و ضعف إعداد البلد لنهضة شاملة تقوم على أسس و قواعد من البنى التحتية الصلبة التي تغطي الطرق و الموانئ و المطارات و تشيد صروح الجامعات و المستشفيات و المصانع التحويلية و الأولية و المراكز و المعاهد المهنية و التكنولوجية التي تلبي احتياجات و متطلبات هذه التنمية من ناحية، و انتشار ثم استفحال الفساد و استشراء النهب و تبديد مداخل هذه الثروات الوفيرة من ناحية أخرى،
· انعدام الحس الوطني و تراجع الوازع الديني و غياب وخز الضمير الإنساني في كل أوجه ممارسة واجبات و افتراضات و متطلبات المواطنة، و على العكس من ذلك تبرز جلية الاستجابة الفورية و العملية شبه العامة لإيحاءات و إملاء العقليات الموغلة في القدم بكل روافدها التي ما تزال عصية على التغيير. و ليس الأمر بصعب التحسس أو الإدراك أو الاكتشاف إذ هي ما تدار به الأمور في أبسط تجلياتها و شؤونها و مجريات سيرها و لا تخرج مطلقا عن هذا السياق رغم كل النوايا الحسنة التي كانت لا تزال تظهر من حين لآخر لمواجهتها و إحداث شرخ فيها، و لما لم تجد ما يدعمها و يسندها في هذا الاتجاه من الإرادات و الاستعدادات الأخرى فإنها تتقهقر لتتلاشى تاركة المقام لعودة مضامين و عقليات هذا الماضي السلبية التي تنبذ العمل و تحارب العدالة و تهين الكرامة الإنسانية و تضعف الوطنية و تنسف الإنتماء و تُكَرِه في البناء بالتمكين لقوى البطش و الفساد و التبذير و رفس القيم و الإخلال بتوجيهات و تعاليم الدين القيم إلى العدل و البناء و القوة و الاستقامة من ناحية، و للسلوكات العدوانية مثل الكراهية والتعدي على الإنسان وعدم احترام البيئة و تجاوز حقوق الإنسان على أرض الواقع من خلال التباينات الصارخة و الهوة السحيقة بين القلة المتخمة و الأغلبية المطحونة من الفقراء تمتص دماؤهم وقوتهم اليومي لحساب جشع ممارسي الفساد و أصحاب رأس المال الغاشم و هواة بناء الرجعية المقيتة من ناحية أخرى.
و بالطبع فإن ضعف حضور الوطن في يقظة الضمير و غياب ثقافة السلوك القويم في مسار المدنية، و بُعد استحضار المستقبل المشرق في أحضان الحاضر هي حواجز ستظل سميكة و عواقب كأداء أمام ترسيخ كيان الدولة و إعداد المواطن لاستيعاب مفهومها و مد الصلة الوثيقة لا انفصام فيها بينهما.
و لا بد إذا لهذه المرحلة أن تتولد من معاناة ست و خمسين عاما من غياب المواطن المدني المتحضر المدرك أن المدنية تحيل في أبعد معانيها إلى مفهوم التحضر والتمدن والتقدم وأنها مجموعة من المفاهيم والقوانين المرتبطة بتنظيم الحياة العامة في مجتمع الدولة، إرادة التحول على أيدي نخب مضيئة واضحة تصنع أملا جديدا، تنتصر للحق و الحرية، تندد بمظاهر الظلم والحط من الكرامة الإنسانية دون تملق أو وجل أو تردد أو كيل بمكيالين وتسعى إلى محو الصورة السلبية عن المثقفين الانتهازيين ـ و ما أكثرهم ـ الباحثين، في حل من الوطن الذي هو أمانة في أعناقهم، عن المجد والأضواء والمال والمواقع و تسد الطريق في وجه من يعملون على إبقاء عقارب الساعة في الماضي، حيث التباين والظلام والخرافة والجهل بمقاييس الدولة و أركان ثباتها.