سجلتُ حضوري ككل الطاقم العامل في جريدة "لاتريبون" العربية التي يرأس تحريرها الصحفي اللامع الحسين ولد محنض و يديرها الإعلامي البارز محمد فال ولد عمير... و بما أنني كنت من المحررين المكلفين بتغطية الأحداث.. لم أنتظر أن يأمرني أحدهم بالتوجه إلى مقر فرقة الموسيقى العسكرية الواقعة حينها جنوب السوق الكبير و قبالة سرية المرافقات من الدرك الوطني..
توجهت من تلقاء نفسي إلى هناك في هذا اليوم القائظ من شهر مايو 1998 ... كانت النشرة الفرنسية التي صدرت صباح ال13 من الشهر تحمل عنوانا كبيرا عن سقوط طائرة عسكرية تابعة للجيش و مقتل 39 من ركابها...
كان علي أن أعرف لائحة العسكريين الذين كانوا على متن هذه الطائرة عند توجهها من نواكشوط إلى النعمه.. بعد أن استعصى على الزملاء في عين المكان الحصول على هذه اللائحة...
تحدثت بعض وسائل الإعلام عن 3 ناجين من هذا الحادث.. و أنهم يرقدون في المستشفى العسكري في لكصر... و قد توجه الزميل كمرا سيدي موسى من الجريدة الفرنسية إلى هناك..
و نظرا لدافع السبق الصحفي كنتُ أريد أن أعرف اللائحة الأصلية التي يفترض أن أصحابها هم ضحايا الحادث...
بيد أن الأمر يختلف تماما عما كنتُ أتصوره أنا...فبعض المسجلين في اللائحة لم يُسمح لهم بالرجوع في الطائرة بعد انتهاء زيارة الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع لولاية الحوض الغربي.. و بعض الضحايا لم يكونوا في الأصل مسجلين على قائمة الرحلة... ثم إن القيادات العسكرية تريد التحري في الأمر حتى تعرف من هم الضحايا الفعليون قبل نشر اللائحة...
وصلت مقر القيادة.. و لا حظتُ زحمة كبيرة عند الباب الأمامي... و انتهزت فرصة أمرين إثنين.. أولهما أنني كنت أسكن في السكن الخاص لهذه السرية.. سنة 1985 مما ساعدني في التعرف على بعض كبار السرية ممن لا أذكر أسماءهم الآن.. ثانيهما: أنني درَستُ في المدرسة العسكرية في أطار خلال سنوات 1988 ، 1989 ، 1990 ، 1991 ... مما جعلني على معرفة بمجموعة كبيرة بكثير من ضباط الجيش و الدرك و الحرس الوطني...
عندما كنت أزاحم ربات الأسر اللواتي أتين هنا لمعرفة مصير ذويهن.. التقيت بضابط من الجيش برتبة نقيب.. كان يوما من تلاميذي في المدرسة العسكرية.. فحياني و أدخلني إلى سكرتاريا القيادة.. و شرحت لهم هدفي من المجيء هنا.. فناولوني ورقة مطبوعة على الكمبيوتر تحتوي على أسماء من كان من المفترض أن يكون في رحلة الذهاب...
أخفيت اللائحة في حقيبتي و خرجت من السكرتاريا و من باب السرية مهرولا... لاحقني عدد من الذين كانوا ينتظرون أمام الباب الأمامي... و " و جأرت في وجهي الصبيان//// و استعطفت رحمتي النسوان..." كما قال أحمد البدوي عن أبي لبابة الربيط...
أسرعتُ الخطا متملصا من هؤلاء الذين منهم المنتحب و منهم المناشد و منهم من يحاول إقناعي...
يبدو أن أحدهم قد أسرَ لهؤلاء أن لدي لائحة ما...
رجعت القهقرى و خرجت من الباب الخلفي و قدماي تسبحان في وحل الصباغات في حي بلوكات القصيرة، كما كنا نسميها, لأمر شرقي السوق الكبير... و لكن المطاردة لم تنته.. رجال و نساء و أطفال يقتفون أثري.... حتى وصلت إلى شارع جمال عبد الناصر عند زاوية بناية المرحوم الدنبجه... التي صارت الآن " سوسيتيه جنرال"... توقفتُ لألتقط أنفاسي... محترما إشارة التوقف عند ملتقى الطرق.... و إذا بشيخ يمسك ياقتي من الخلف و يناشدني أن أريه اللائحة ليعرف إن كان ولده الوحيد فيها... التفتت إليه قائلا بنبرة لطيفة: " يا والدي أرسلني.... فليست لدي لائحة..." لم يُخلصني ذلك منه... و كانت دموع غزيرة تتصبب من عينيه مختلطة بعرق شديد في هذا اليوم الحار من شهر مايو...
لم أرد أن أفكَ أصابعه من الياقة بالعنف.. نظرا لسنه المتقدم و ارتعاش أصابعه... و لكنه أوقعني في كمين حقيقي.... عشرات النسوة تجمهرن حولي... خاطبني بعضهم معتقدا أنني القائد العام للقوات... و بعضهم خاطبني بوصفي ممثل السلطة في البلاد...
رموني بالظلم و التعتيم على الحقائق...
تودد لي بعضهم و استعطفني آخرون بالاسترجاع و الاسترحام، كما قال الإمام علي، رضي الله عنه في خطبة الجهاد...
أريد أن أفاجئ القراء يوم غد بهذه اللائحة على صفحات الجريدة إذا تخلصت من أنياب المادة 11 عند وزارة الداخلية...
الجريدة من أكثر الجرائد مصادرة في البلاد.... كانت في الجريدة أقلام جريئة من أمثال قلم الحسين ولد محنض و محمد فال ولد سيدي ميله... و خاصة قلم الكاتب الصحفي الكبير و الجريء محمد الأمين ولد محمودي...
كنتُ و سيدي محمد ولد تتاه و هاشم ولد سيدي سالم و محمد الأمين ولد التيجاني... من أكثر محرري الجريدة اعتدالا... و كان المدير الناشر محمد فال ولد عمير ينتقدنا على ذلك...
و مع ذلك فقد تم استجوابنا مرة من طرف مفوض العدالة خرشي على خلفية مقال من توقيعي... و تطلب ذلك تدخل عميد سلك المحامين، يومها، الأستاذ محفوظ ولد بتاح لإغلاق هذا الملف... الذي حركته شكوى ضدنا تقدم بها وزير العدل، المرحوم محمد الأمين ولد أحمد...
اكتظت الساحة المقابلة لبناية الدنبجه بعشرات البؤساء الذين يرون أن لدي حقا لهم أمنعهم إياه...
لم أرد الاستسلام لتلك الضغوطات الملحة... تجمهر بعض الفضوليين حولنا... و كان بعضهم يظن أنني لص انتشلت شيئا من الشيخ..
كان مظهري الخارجي يوحي بذلك: بنطلون من نوع جين و ياقة دكناء و تي شيرت أزرق يظهر من مستوى صدري و حذاء رياضي بال يخفي قدمي المتعرقتين....
زجرني أحد الحمالة قائلا: " لمَ لا تعطي الشيخ حيوانه؟" رددتُ عليه بصوت مرتفع قائلا: " أي شيخ؟ و أي حيوان؟... هذا الشيخ يريد عندي لائحة تخصني و أقسم بالله أنني لن أعطيها له و لا لأحد آخر..." و نفضتُ يد الشيخ من ياقتي.. و خرجتُ من بين الجمع مهرولا إلى الجانب الآخر من الشارع... و متوعدا كل من يلاحقني مرة أخرى....
عندما وصلتُ الجريدة الواقعة إلى جانب المصرف الليبي الموريتاني... فوق مطعم الرمال.. كان أحد أقاربي يلاحقني... و أقسم علي أن أعطيه للائحة.. دخلت مكتب المدير... لم أجد أمامي إلا أحد عمال النظافة... رميت الورقة على المكتب... و قلت للقريب الذي يقسم علي... خذ ورقة و قلما و سأملي لك اللائحة... و اعلم أنك ستتحمل عواقب نشرها للجمهور... لم يكن يأبه لذلك و أخذ مني الأسماء بسرعة و عاد بها إلى الجمع الذي لم ينفضَ بعدُ و أخذ يقرأها بصوت جهير.... كانت نسوة تسقط على الشارع و أخر تبكي معرضة نفسها لتهور السائقين.....
و في المساء اطلعنا على اللائحة القادمة من عين المكان في النعمه... فإذا بها تختلف تمام الاختلاف عن اللائحة التي هي بحوزتي..
من صفحة الأستاذ سيدي محمد متالي على الفيس بوك