النشيد الوطني والمسلمة المغلوطة؟

خميس, 10/27/2016 - 21:29

يتابع المواطن الموريتاني بتلهف ما سيقرره الحوار السياسي الذي يجري هذه الأيام في قصر المؤتمرات في موضوع النشيد الوطني باعتباره رمزا لحرية البلاد واستقلالها، بل ولوجودها وقيام كيانها أصلا.. وفي هذا الإطار تم نقاش الموضوع وتمحيصه من طرف أصحاب الرأي والحصافة من باحثين ومثقفين ومؤرخين وسياسيين وكتاب وحتى من الذين لا صفة لهم تخولهم طرقه إلا ما كان من قبيل التطفل وحب الشهرة. وقد تباينت الآراء واختلفت الموافق باختلاف الزاوية التي تناول منها هؤلاء وأولئك الموضوع.

ولئن كان من القوم من أبدى رأيه بموضوعية وأمانة ـ بغض النظر عن مساندته أو معارضته لتعديل النشيد ـ  فمنهم من وجد فيه سانحة ليلقي معاذيره في أخطاء تبناها باسم علماء أجلاء هم منها براء نظرا لمكانتهم العلمية وحسن نيتهم وسلامة قصدهم، فيأخذ لهم بثأر لم يبحثوا عنه في حياتهم؛ وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يومن بتاريخنا ممن هو منه في شك.

والنتيجة التي خرج بها هؤلاء هي أن حملوا علماءنا الأجلاء الذين قاوموا الإستعمار مسؤولية مواقف اجتهدوا في أخذها وبنوها على أسس شرعية متينة ـ صادفت الصواب أم لم تصادفه ـ وهي موافق لعمري قد حسمها الواقع حين ظهرت وأصدر فيها التاريخ حكمه بعدما انقضت وربما كان لها المستقبل بالمرصاد إن رجعت أو أرجعت.

ورغم النزاهة العلمية التي ظهرت في بعض الآراء وحسن سبكها، فإن الحقيقة المغيبة هي أن الجميع انطلق في تحليلاته وتأويلاته من مسلمة مغلوطة هي أن النشيد الوطني يجب أن يتميز بالحماس، كما لو كنا نتأهب لحرب طاحنة وليس لنا من سلاح سوى الحماس، فمتى كان الحماس شرطا في جودة النشيد الوطني؟ وهل صحيح أن النشيد الوطني وارد في سياق الحرب قبل سياق السلام؟

إنها حقيقة مسلمة مغلوطة بكل المقاييس، فالنشيد الوطني عبارة عن كلمات تربط المواطن بوطنه من خلال إثارة بعض المعاني التي تلامس وجدانه نتيجة لعلاقتها بعقيدته وقيمه الروحية وتاريخ مجتمعه ولا علاقة له بما يزعمه الداعون إلى تغييره من معاني الحماس والشجاعة والبطولة. ولو سلمنا جدلا بالذي يتقولون لكان كافيا أن نسألهم عما يعلمون مما هو مدعاة للحماس فوق أن تكون عقيدتك إسلامية صحيحة وأن تسمع:

 

ولا تعد نافعا @ سواءه أو ضائرا

واسلك سبيل المصطفى @ ومت عليه سائرا

 

تصدع بها حناجر الجنود في ميادين الحرب ويرددها الأطفال في ساحات المدارس ويعتقد بها كل موريتاني في نفسه ويعمل على أساسها في حياته؛ لكن هيهات، فالحقيقة أن معارضي النشيد الوطني اليوم يتبارون في الإبداع في النيل منه بين من يدعي أنه لا يفي بالغرض الحماسي المطلوب في الأناشيد الوطنية ومن يتجاسر على العلامة باب ولد الشيخ سيديا ويفتري عليه أنه ألف كلمات النشيد ليثني أخاه الشيخ سيد المختار عن الطريقة التيجانية؛ وكلها أباطيل لا تقوم على مستند تاريخي ولا معطى عقلي ولا نقلي، بدل أن يكون هذا النشيد مفخرة لكل المواطنين الموريتانيين يتمسكون به تمسكهم بدينهم وأن يوفوه حقه  بالقدر الذي يعبر به هذا النشيد نفسه عن حقيقة الذات الموريتانية الأصيلة وعن واجب المسلم الطبيعي حيث ما كان!   إنه نشيد يصلح لأن يكون خاصا بالمسلمين في جميع أرجاء المعمورة.

ثم إن على الذين يدعون إلى اختزال النشيد الوطني في أغراض الحرب أن يعلموا أن الأدبيات الحربية عند الموريتانيين لا تحيل إلى النشيد الوطني إطلاقا وإنما تحيل إلى ما يعرف عندنا ببيت حرب ينشده الفنان عندما تبلغ القلوب الحناجر ويشتد الوطيس على نغمات مقام "فاغ" المعروف في موسيقانا الوطنية ولا تكاد تجد مواطنا موريتانيا مهما كان مشربه إلا ويفعل فيه هذا البيت فعلته؛ وهي قطع قليلة خالدة عندنا مثل:

 

نحن أبناء الملوك والحرب قد نزل @ ولا باس في الموت إذا حان الأجل

 

أو قولهم:

 

ليس الشجاع الذي يحمي فوارسه @ يوم اللقاء ونار الحرب تشتعل

 

أو قولهم:

 

إنك لو شاهدت يوم الخندمه @ أن فر صفوان وفر عكرمه.

 

أو قول عنترة ابن شداد:

 

ولقد ذكرتك والرماح نواهل @ مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها @ لمعت كبارق ثغرك المتبسم

 

أو كقول المتنبي:

 

الخيل والليل والبيداء تعرفني @ والسيف والرمح والقرطاس والقلم

 

المثال على صحة ذلك ما سمع كل واحد منا من أناشيد منينة بنت اعليه وغيرها من كبار فنانينا أثناء الحرب الموريتانية الصحراوية وهي تشجع الجيش الوطني وتستنهض هممه للذود عن حياض الوطن. وللذين يهملون كل هذه المعطيات ويغضون الطرف عنها فإن كلمات النشيد الوطني تحمل الرد الشافي فيما هم فيه يختصمون:

 

قد موهوا بشبه @ واعتذروا معاذرا

وزعموا مزاعما   @    وسودوا دفاترا

واحتنكوا أهل الفلا@   واحتنكوا الحواضرا

 

ولئن جئتهم بكل آية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون.

بقلم: الشيخ سيدي باب إبراهيم