تكانت قلعة المقاومة الموريتانية البطولية الحصينة ضد المستعمر الفرنسي، التي تظل شاهدة على رفض الشعب الموريتاني للمستعمر إبان غزوه الغاشم لبلادنا مطلع القرن العشرين، وحضن دافئ آوى الرجال الذين آمنوا يوما بأن لهذه الأمة الموريتانية كرامة وعزة تأبي الخنوع والاستسلام لإرادة العدو، والأرض التي تحطمت على جبالها الشامخة مطامع قائد الحملة الاستعمارية "كبولاني" الذي ظنها أرضا سائبة ولقمة سائغة لجنوده، فاصطدم بإرادة شعب موريتاني ورجال شجعان تنادو من كل حدب وصوب ليمرغوا أنف المستعمر في معارك تكانت الشهيرة، كمعركة "تجكجة" ومعركة"النيملان" التي اعتبرت ملحمة وطنية جمعت المقاومين من كل مناطق موريتانيا وجهاتها وقبائلها في يوم مشهود كتبت أحداثه البطولية بدماء الشهداء.
تكانت رأس حربة المقاومة الموريتانية ضد المستعمر الفرنسيـ وكل أراضي وجهات موريتانيا هي في الحقيقة بلاد أبلت بلاء حسنا في مواجهة المستعمر الفرنسي ـ بيد أن لهذه الولاية خصوصية في هذا الإطار كونها نالت شرف احتضان أكبر عدد هذه المعارك، مثلما تشهد عليه أضرحة الشهداء المتناثرة في جهات ومناطق الولاية المختلفة وقبور والأنصبة التذكارية لقتلى المستعمر الموجودة هي الأخرى بكثرة في مناطق الولاية.
الأستاذ سيدي محمد ولد هيدي باحث في مجال المقاومة والممثل الجهوي للرابطة الجهوية لتخليد بطولات المقاومة الوطنية في تكانت، يستعرض في حوار مع "الشعب" أبرز المعارك التي خاضها رجال المقاومة على أرض تكانت معتبرا أن لهذه الولاية خصوصية في ما يتعلق بالمقاومة الوطنية ضد المستعمر الفرنسي، نظرا لأن أديم هضبة تكانت كان ميدان للعديد من المعارك، وتوزعت خريطة المعارك لتشمل كافة أرجاء الولاية من الرشيد إلى تيشيت، ومن "المينان" إلى "لتفتار"، مبينا أن كافة هذه المعارك كانت لها نتائج ملموسة ومؤثرة.
أول هذه المعارك ـ يضيف الباحث سيدي محمد ولد هيدي ـ معركة تجكجة، التي وقعت في الـ12 مايو 1905، والتي قتل فيها منظر الحملة الاستعمارية "أكزافيي كبلاني" من طرف مجموعة المقاومين القادمة من آدرار، بقيادة المجاهد الشهيد سيدي ولد مولاي الزين، والتي كانت بالتنسيق مع سكان البلدة، وهذه المعركة يضيف الأستاذ والباحث سيدي محمد ولد هيدي، كانت أول ضربة يتلقاها المستعمر في الصميم، وهي مقتل منظر هذه الحملة الفرنسية وقائدها.
"النيملان": معركة جامعة
ويبدو أن عملية تجكجة يضيف الباحث، أعطت دفعا للمقاومة خلال السنوات اللاحقة لتاريخ هذه العملية، مقابل تراجع وهزائم متتالية للمستعمر، حيث نلاحظ أن بعد مايو 1905 كانت وقعة أخرى للمقاومة ضد المستعمر في أكتوبر 1906، هي المعركة الشهيرة في "النيملان"، وهي عبارة جيش قدم أغلب أفراده من الشمال ـ يضيف الباحث سيدي محمد ولد هيدي ـ ممول بالسلاح من طرف المجاهد الشيخ ماء العينين، ويضم أغلب قيادات الوطن في تلك الفترة، بما فيها القيادات الدينية والقيادات الأميرية، التي ضرت "أنيملان" من أمثل أحمدو ولد سيدي أعل، أمير لبراكنه، إعل ولد بكار أمير إدوعيش، أحمد محمود ولد أمحيميد، أمير مشظوف، وبناه ولد محمد الراظي من أهل سيدي محمود، وسيدي ولد الغوث ومجموعات لقلال التي كان نصف الشهداء التي من بين أفرادها في هذه المعركة، وكذلك العلماء أولاد ميابى، وسيدي المختار ولد القاضي إجيجبي، وسيدي أحمد ولد أحمد العيده، وكذلك مجموعة أهل أحجور.
ومن أهل تجكجة ـ يضيف الباحث ـ حضر إلى هذه المعركة لمام ولد الزين، ومحمد الأمين ولد محمد أحيد، ومن الشمال حضرت قبائل بني أدليم، وأبي السباع، وكان جيش هذه المعركة يقارب سبع مائة شخص، وشارك فيها كذلك القائد والمجاهد الكبير محمد المختار ولد حامد.
وقد عسكرت هذه القوات الموريتانية غادة قدومها من الشمال في واد "النيملان" الواقع على بعد ثلاثين كيلومتر من تجكجة، وقد بعثوا من موقعهم برسالة إنذار للحامية الفرنسية، أنه ليس أمامها إلى خياران، الإنسحاب أو الاستسلام، لكن قائد الحامية الفرنسية، يضيف الباحث، أطلق النار فوق رأس صاحب الرسالة، مع توبيخه الشديد، وكان جوابه تنظيم وحدتين من جنوده بشكل مباغت، من أجل مفاجئة المقاومين في "النيملان" فجأة، وهو ما أنتبه له أهل تجكجة، وأرسلوا رسولين على وجه السرعة إلى المقاومين في النيملان لإطلاعهم على خطط الغزاة، وبالفعل تحسبوا جيدا واستعدوا لهذه المعركة، وساعدهم في هذا التحضير الجيد أن الدليل الذي كان برفقة الغزاة تعمد مغالطتهم في الطريق لكي يضلهم عن أرض المعركة، الشيء الذي جعلهم يصلوها متأخرين في حدود السابعة صباحا.
وكانت من نتائج هذه المعركة الحاسمة يضيف الباحث في شؤون المقاومة الأستاذ سيدي محمد ولد هيدي، نصرا ساحقا للمقاومين، وهزيمة للغزاة الذين سقط منهم على الفور أربعة ضباط، وهو ما يشهد عليه النصب التذكاري الذي لا يزال موجودا حتى اليوم في "أجريف" بمنطقة "النيملان" الذي كتبت عليه أسماء القتلى بخيط يد المستعمرين أنفسهم.
وأضاف الباحث في حديثه عن مجريات معركة "النيملان" ونتائجها القيمة، أنه تم القضاء على المفرزة المكونة من وحدتين التي زحف بها المستعمر إلى أرض المعركة والتي كانت تضم تسعين من المشاة الذين جلبهم المستعمر من بعض دول الجوار لتدعيم جيشه، مقابل استشهاد ثمانين من الأبطال المجاهدين من أفراد المقاومة، كان من ضمنها جرحى، بالإضافة إلى حصار قلعة "تجكجة" لمدة أربعة وعشرين يوما من طرف قوات المستعمر.
معركة "المينان"
في سنة 1908 قرر القائد الفرنسي "جورج مانجييه" المعروف ب"بودرص" (نسبة إلى ضرس من الذهب) تشكيل وحدة تعرف بالجمّالة بعد أن أيقن أن هذه البلاد الصحراوية لا يمكن السيطرة عليها إلا بالجمال.
عسكر "مانجييه" يضيف الباحث سيدي محمد بوحداته في منطقة "المينان" الواقعة سبعين كيلمتر شمال تجكجة، من أجل مطاردة المقاومين، فكان ذلك سببا لمعركة أخرى في الـ14 يونيو 1908 تم فيها القضاء على هذا القائد الفرنسي ووحداته في معركة "المينان" وتم حز رأسه وأنتزاع "ضرسه" الذهبية وقد نفذت الهجوم مجموعة من أفراد المقاومة الباسلة مثل مجموعة "أهل أحجور" ومجموعة من تلاميذ "الشيخ ماء العينين"، وذلك بقيادة سيدي محمد ولد حامني، وسيدي محمد ولد حبت، وإحدى مجموعات "كنته".
وكردة فعل من الاستعمار الفرنسي، يضيف الباحث، على مشاركة ولد الحامد في هذه المعركة، ودعمه للمقاومين خلال معركة "النيملان" بالأسلحة التي حصل عليها من طرف المستعمر، لجأ المستعمر في ال16 أغسطس 1908 إلى تدمير مدينة "الرشيد" (القديم) باستخدام مدافع رشاشة، فدمرت بشكل كامل، بعد دكه بالمدافع، حتى سوي بالأرض تماما، كما أنتهكت فيه الأعراض وحرقت المكتبات في العدوان الغاشم.
معركة "لتفتار"
وفي سنة 1908 يضيف الباحث سيدي محمد ولد هيدي، نفذ المقاومين عملية اقتحام ضد مراكز مؤونة المستعمر في مقاطعة "المجرية" وتحدايدا في بلدة "لتفتار" وفعلت بها ما فعلت.
وهكذا نلاحظ أن أبطال المقاومة أو المجاهدين يضيف ولد هيدي، كانوا يؤسسون عمليات ضد المستعمر على مبدأ الجهاد الذي كان يوحدهم، ويتناسون خلافاتهم، من أجل المشاركة في الجهاد، ولذلك نلاحظ أنهم في معركة "النيملان" أختاروا له يوم السابع عشر رمضان، ذكرى غزوة بدر.
وفي المجرية كذلك يضيف الباحث، كان مبدأ الجهاد حاضرا خلال المعركة الآنفة الذكر، نلاحظ أن أحد المجاهدين الذي استشهد في معركة "لتفتار" وهو المجاهد الشهيد الشيخ ولد عبد الله ولد محم عاشور كان يتمثل بأبيات جعفر ابن أبي طالب في غزوة مؤتة، وهي:
ياحبذا الجنة وأقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
كافرة بعيدة أنسابها
وقد ظل يتمثل هذه الأبيات حتى استشهد في تلك المعركة بعد أن كان قد شارك في معركة "النيملان" قبل ذلك إلى جانب بقية المجاهدين.
معركة "تيشيت"
من بين معارك وبطولات المقاومة التي كان أرض تكانت مسرحا لها معركة "تيشيت" التي جرح فيها الأمير سيدي ولد أحمد العيده، وتم أسره نظرا لأنه كسر في تلك المعركة، وهو الذي كان يتخذ من هذه الصحاري وهذه المهامه مجال لمقاومة الاستعمار الفرنسي، وكان يتحصّن في تلك المناطق، وقد تابعة الغزاة عن طريق عيونهم حتى باغتوه على حين غرة فكانت هذه المعركة التي جرح فيها الأمير في هذه المعركة التي تعد إحدى أهم معارك المقاومين الموريتانيين ضد المستعمر الفرنسي.
وكخلاصة يضيف الباحث في شؤون المقاومة سيدي محمد ولد هيدي فإنه يلاحظ أن تكانت كان أرضا للمقاومة من "الرشيد" في أقصى الطرف الغربي، إلى "تيشيت" في أقصى الطرف الشرقي، ومن "المينان" في الشمال، إلى "لتفتار" في آخر نقطة من حدود تكانت في الجنوب. وهذا ما يعني ـ يضيف الباحث ـ أن هذه الهضبة كان محط أنظار المستعمر الذي كان يركز عليها بشكل كبير، مثلما كان المقاومة أيضا تركز عليها.
كما أن هناك ترابط بين أحداث المقاومة، ومعاركها ضد المستعمر، يضيف الباحث، فقتل كبولاي، كان ردة فعل من المقاومين والمجاهدين على أستشهاد الأمير المجاهد بكار ولد أسويد أحمد الذي استشهد في معركة "رأس الفيل" ضد المستعمر الفرنسي.
كما أن استشهاد المجاهد سيدي ولد مولاي الزين أدت بالمجاهد محمد المختار ولد حامد إلى نقض اتفاقه مع المستعمر، وينقلب ضدهم بالرغم من أنه أصلا لم يكن مهيئا للاتفاق مع المستعمر يضيف الباحث، نتيجة لتربية المحظرية ومحيطه الاجتماعي.
كما تتحدث بعض الروايات يضيف الباحث عن وجود تنسيق بين المجاهد سيدي ولد مولاي الزين و بلدة تجكجة بقيادة سيدي ولد الزين بخصوص التخطيط لعملية تجكجة التي قتل فيها كبولاني، نتيجة لكون زوجة سيدي ولد الزين هي ابنة المجاهد بكار ولد اسويد أحمد.
الاحتفاء بالمقاومة..
وحيى السيد سيدي محمد ولد هيدي، المندوب الجهوي لرابطة بطولات المقاومة في "تكانت" جهود رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز بخصوص الاحتفاء بالمقاومة من خلال الأنشطة والمناسبات المختلفة، وكذلك تمويل الهيئات التي تقوم بدور توثيق وكتابة تاريخ المقاومة وإبراز مآثرها وبطولاتها الخالدة، وكذلك فتح القنوات الرسمية من أجل استمرار ذكر المقاومة في وسائل الإعلام العمومية بغية تذكير أجيال الحاضر والمستقبل بتضحيات الأجداد لمقاومة المستعمر، وصد عدوانه الذي كان يستهدف هذه البلاد.
ويمكن القول يضيف الباحث أن حدث انفراج بخصوص الحديث عن المقاومة وذكر مآثرها، وأخبارها وأصبح لدينا منشآت حديثة وشوارع بأسماء تذكر بالمقاومة، ونشطت حركة التأليف لسبر أغوار تاريخ المقاومة الموريتانية ضد المستعمر الفرنسي، وكان هناك فتح مجال أمام الباحثين من أمثال الشيخ الطالب أخيار، والضابط الكاتب سيدي محمد ولد حديد، وغيرهم مما فتح أمامهم المجال للكتابة عن تاريخ هذه المقاومة والتعريف بها بعد أن كان يلفها النيسان، وهذا ما يعني أن المقاومة لأول مرة تجد متنفسا وذكرا لها وإشادة ببطولات رجالها على يد فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز.
تقرير: الطالب ولد إبراهيم