في سياق رصدنا لتطورات الساحة الوطنية ضمن الظرفية الراهنة -التي تتميز بكونها لحظة تأسيسية فارقة- تساءلنا في مقالين سابقين: "هل بدأ فعلا العد التنازلي لحكم الرئيس عزيز؟" بعد أن كشف أثناء مقابلته الأخيرة مع قناة فرانس24 عن سقف طموحاته السياسية المستقبلية، كما حاولنا تلمس مستقبل "موريتانيا على مفترق طرق 2019"، ضمن الآفاق المستقبلية المنظورة للحراك السياسي الجاري وما أفرزه من تجاذبات مختلفة في الساحة الوطنية. أما هذا الأسبوع، فإننا سنتابع استقراء التطورات الجديدة التي تبدو أكثر من مقلقة.
أولا: بدأت عوامل التفكك وإعادة التشكل تفعل مفعولها داخل أغلبية الرئيس عزيز، في ما يوحي بتصدع منتظر في جبهته الداخلية، التي سيرتكب خطأ جسيما لو تصور أنها "أغلبية" تدين له بشكل مطلق، بل هي- ككل "الأغلبيات" عبر تاريخ هذا البلد- قد تقبل التوحد حول شخص الرئيس، ولكنها لن تكون بالضرورة مستعدة للتوحد حول مرشح الرئيس؛
ثانيا: أدى عرض التعديلات الدستورية داخل غرفة الجمعية الوطنية إلى إظهار هشاشة قوى الأغلبية وضعف مرتكزاتها السياسية، إضافة لانشغالها بصراعات هامشية ضيقة، كما فتح الباب واسعا أمام مختلف أنواع المساومات سواء داخل أطياف الأغلبية نفسها مع النظام، حيث لا شيء يجمع بين أفرادها سوى المساومة على ولائهم. كما أن تعامل الحكومة بأقصى درجات القمع مع احتجاجات المعارضة أمام الجمعية الوطنية أظهر قدرا كبيرا من التشنج المفرط، عكس مستوى التوتر النفسي لدى النظام، واقترابه من حالة اليأس السياسي، حيث لا يتبقى له سوى الاعتماد على نواته العنفية الصلبة؛
ثالثا: بروز خطاب المعارضة داخل قبة البرلمان وخارجها بشكل منتعش وأكثر إقناعا، تجاوز دحض المبررات المساقة لتعديل الدستور، مسلطا الضوء على الكثير من الإختلالات والنواقص البنيوية التي يعاني منها تسيير النظام لشؤون البلاد، خاصة مع ما يشاع حول فساد الرئيس عزيز نفسه) التهرب من التصريح بالممتلكات، تسجيلات أكرا، الحصول على الكثير من عقود الامتياز، جمع تمويلات لمؤسسته الخيرية، الخ( وما يقوم به المقربون منه من نهب ممنهج لثروات البلاد، وهيمنة كاسحة على فرص الأعمال القليلة المتوفرة، إضافة إلى انتشار الفساد في قطاعات التعدين والصيد البحري والعقارات، ووصول الدين العمومي إلى أعلى نسبة له خلال التاريخ الموريتاني الحديث، حيث يزيد حاليا على 90 في المائة من الناتج الوطني الخام.
رابعا: كشفت المسيرات الاحتجاجية للمعارضة في نواكشوط يوم أمس عن حجم تذمر الشارع من الوضعية القائمة وعدم وضوح الرؤية لدى النظام، إضافة إلى سخط المواطنين على الظروف المعيشية الطاحنة، كما أظهرت كذلك مستوى التعبئة الجماهيرية لقوى المعارضة -رغم ضعفها وهشاشتها وتشرذمها- والرصيد الشعبي الذي تتمتع به في الشارع، وهو ما سيتيح لها بلا شك فرصة إعادة ترتيب أوراقها، كما سيمنحها الوقت الضروري المناسب لتجاوز خلافاتها وتوحيد قواها خلف مرشح قوي، وهو أمر قد يفرض تغيير المعطيات على الأرض، وينسف أجندة الرئيس عزيز المفترضة لتوريث الحكم بغية الرجوع إليه بعد حين.
خامسا: تسجيل دخول المجتمع الدولي على الخط بعد تصريحات الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لغرب أفريقيا، أثناء زيارته قبل يومين لنواكشوط، حيث التقى بأبرز الفاعلين السياسيين في البلاد- بمن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس مؤسسة المعارضة- وأوصى بأهمية تنظيم حوار وطني شامل ومباشر بين الفرقاء السياسيين من أجل التوصل إلى حلول مناسبة للتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تواجهها البلاد كغيرها من بلدان منطقة الساحل. وقد سبق للاتحاد الأوروبي كذلك أن طالب الحكومة بضرورة إجراء حوار وطني موسع. ورغم أن موقف المجتمع الدولي لا يتوقع أن يكون له تأثير حاسم على التطورات الجارية في المدى المنظور، فإنه قد يشكل مع الوقت عنصرا ضاغطا، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الأوضاع السياسية الدولية والإكراهات الإقتصادية والمالية التي يواجهها النظام يوما بعد يوم؛
سادسا: بروز السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بشكل ملح على النخب الموريتانية المدنية منها والعسكرية، ألا وهو كيف يمكن ترشيد الخيارات السياسية لكل من الأغلبية والمعارضة بما يعزز فرص التداول السلمي للسلطة؟ وينقذ مسار التحول الديمقراطي من خلال بناء صورة مستقبلية مفضلة للبلاد والترويج لها، باعتبار ذلك خطوة ضرورية نحو تحويل هذه الصورة المستقبلية إلى واقع، وما يتصل بذلك من تبنى أفعال سياسية و اجتماعية واقتصادية وثقافية معينة من أجل قطع الطريق على الصور المستقبلية غير المرغوب فيها، والحيلولة دون وقوعها، حيث يمكن تطبيق هذه المقاربة الترشيدية -على سبيل المثال لا الحصر- على السيناريوهات الخمس التالية:
- توريث السلطة من خلال دعم الرئيس عزيز لمترشح آخر، سواء كان ينوي من وراء ذلك العودة للحكم أو ضمان الفكاك من المسائلة والحفاظ على سلامته الشخصية والمقربين منه وممتلكاتهم؟
- تصعيد المعارضة للنضال السياسي السلمي من أجل فرض حوار سياسي وطني شامل؟
- تفاقم حالة الانسداد إلى مرحلة اللاعودة.. وحدوث إنقلاب عسكري أو ثورة شعبية أو حرب أهلية، أو الجميع معا؟
- تطور الأمور نحو تدخل دولي ذا طابع أممي؟
- حدوث حالة شغور طارئة في المنصب الرئاسي لأي سبب طبيعي أو غيره؟
سابعا: المطلوب حاليا من النخب الوطنية وقادة الرأي في الساحة الموريتانية هو ممارسة تفكير متجرد من أجل المفاضلة فيما بين هذه السيناريوهات كبدائل أو كخيارات متاحة قد تتعرض لها في البلاد، وذلك على أساس تقدير مدروس للتكاليف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية لكل من هذه السيناريوهات على حدة، بما يضمن ترشيد عملية اتخاذ القرارات خدمة للصالح العام بغية تصور شكل معين لمستقبل البلاد يكون مرغوبا فيه ومتفقا عليه على نحو ما؛
ثامنا: يمكن أن تشكل نتائج عملية المفاضلة بين الخيارات أساسا لخارطة طريق لمصالحة وطنية على أسس جديدة تحث الأطراف الفاعلة على ضرورة الانتقال من مرحلة الصراع الشكلاني على السلطة والنفوذ إلى مرحلة التنافس على إنتاج وتبني وتسويق "محتوى إصلاحي" لممارسة السلطة، يكون مقنعا لأكثرية الموريتانيين، و يقوم على أساس الالتزام بأربع مقولات هي: مصلحة وأمن واستقرار وتنمية الجمهورية الإسلامية الموريتانية، باعتبارها معايير ثابتة لتقييم المشاريع السياسية المستقبلية للوصول إلى السلطة وتداولها في البلاد.
محمد المخطار شنقيط
مشروع رؤية موريتانيا 2030
12 مارس 2017