(الفقه الاسلامي متقدم وسابق على عصره وقواعده في الغالب استباقية وليست بالضرورة لاحقة على وجود وقائع معينة، وهذه خاصية من الخصائص التي تميزه عن القانون.)..
قبل سنوات قرأت مقالا لمستشرق (لم أعد اذكر اسمه) في مجلة "العربي" الكويتية، قدم فيه نظرته لمفهوم الحضارة الانسانية واعتبرها حضارة واحدة تجمع عدة ثقافات لأمم وشعوب شتى، وحاول توزيع الثقافات الانسانية الى مجالات مختلفة تتكامل في النهاية فيما بينها لتنصهر في حضارة إنسانية واحدة، وضرب امثلة على نظريته فقال بان الثقافة الفرعونية ثقافة هندسة اعجزت الامم من بعدها ان يأتوا بأبسط مخطط لأصغر هرم او معبد فرعوني، وان الثقافة الهندية ثقافة شعر وغناء وحكمة والثقافة الصينية القديمة ثقافة طب وأهل بابل مجالهم الزراعة وأهل اليونان ميدانهم الفلسفة (اثينا) وفنون الحرب (اسبارطة) والروم مجالهم فن النحت و الحرب والفرس مجالهم الموسيقى والقتال والعرب مجالهم الشعر والأدب (اللغة) واللاتينيون يتوزعون بين القانون والأناقة (لدى الفرنسيين) والرسم والفنون الجميلة الاخرى (لدى الطليان والأسبان) والانكلوسكسون (بريطانيا وأمريكا الشمالية) أبدعوا في الاقتصاد ) والالمان (الجرمان) ميدانهم الفكر..الخ، ولما جاء للثقافة الاسلامية قال بانها ثقافة فقه !!.
ففقه الشريعة الاسلامية معجزة ليس فقط في مصدريه من الوحي (الكتاب والسنة) ولكن أيضاً في جانبه الفقهي البشري (الإجماع والقياس) ويظهر ذلك في القواعد والنوازل والتصنيف والتأليف والتأسيس والقياس والاستنباط والجدل والتنوع واستباق الاحداث، ويرجع البعض تميز فقه فقهاء الشريعة الاسلامية الى ظاهرة العلماء الموسوعيين (درجة الاجتهاد) حيث تجد العالم وقد احاط بعلوم شتى مما يسهل عليه التوصل لقواعد جديدة وتأسيسها تأسيسا قابلا للبقاء عهودا طويلة.
والأمثلة على الطابع الاستباقي لمعظم احكام الفقه الاسلامي كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر قضية عدة من مسخ زوجها قردا او حمارا ومن تحول زوجها الى أنثى..الخ ولا ينحصر الامر فقط في قضية زواج الجن والإنس..وهذا الطابع يعد من الخصائص التي تميز فقه الشريعة الاسلامية عن القانون الوضعي لان الاخير تبنى قواعده على أساس مستجدات تطرأ في حياة المجتمع فتعمل آلية التشريع على سن قانون ينظم ويحكم الوقائع الجديدة.
لذلك استغربت تندر وسخرية بعض الصحافة ونشطاء وسائل التواصل (الاجتماعي) من الكلام الذي ذكره العلامة الامام احمدو ولد لمرابط ولد خبيب الرحمن حول الآراء الفقهية من مسألة زواج الجن بالإنس !!،
وهنا اذكر المهتمين بالحقائق التالية:
1 - ان فضيلة الامام لم ياتي برأي من وحي أفكاره وإنما نقل آراءا فقهية تعود الى عدة قرون.
2 - انه لا جدال في حقيقة وجود الجن (وان منهم مسلمين) خاصة لدى المؤمنين بالوحيين (القرءان العظيم والسنة النبوية الصحيحة).
3 - ان وجود المعطيات (حقيقة وجود الجن والإنس) يتيح وضع قواعد فقهية افتراضية استباقية لأحداث يحتمل ان تحدث (كالزواج بين أشخاص من الثقلين) على النحو الاستباقي المبين آنفا.
4 - ان الحقائق الدينية مطلقة وليست كالمعطيات العلمية التي تعد نسبية وتحتاج المراجعة والتطوير، لذلك فالعلم لا يمكنه ان ينفي الحقائق الدينية الثابتة فالمؤمن اذا رأى بعينيه ما يتعارض مع الوحي عليه ان يتمسك بما يؤمن به ويترك ما يعرض عليه بغض النظر عن الشعار الذي يحمله. فمثلا لا يجوز لمؤمن ان يصدق ان الشمس والقمر يمكن ان يلتقيا أبدا او يجمع بينهما في مشهد قبل مشاهد يوم القيامة او ان الليل قد يسبق النهار لانه ورد في القرءان العظيم قوله تعالى: (لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار) صدق الله العظيم. ووجود الجن ثابت دينيا.
5 - ان على فقهائنا حفظهم الله تعالى التركيز على القضايا الكبرى التي تمس وتؤثر على الحياة اليومية للناس بدلا من الترف الفقهي او الاقتصار على قضايا ثانوية لا أولوية لها في حياة الناس.
....
والله تعالى اعلم.
هذا ما أردت ان أوضحه واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين.