ناقش باحثون ودارسون مساء الجمعة 09 يونيو 2017 بفضاء التنوع البيئي والثقافي واقع فن المدح في موريتانيا وجوانب من تاريخه، من خلال نموذج فن المدح بولاية إينشيري وسط موريتانيا.
وتطرق النقاش الفكري والتاريخي الذي ميز مجريات الندوة الحوارية التي ينظمها مركز ترانيم للفنون الشعبية إلى تاريخ فن المدح في ولاية اينشيري، مؤكدين على المكانة الفريدة للفن بهذه الرقعة الجغرافية، بالإضافة إلى مزايا الخصوصية لدى ممارسينه.
وقال رئيس مركز ترانيم للفنون الشعبية محمد عالي ولد بلال في كلمته بافتتاح الندوة “إن هدف الندوة تسليط الضوء على المدح وخلفياته التاريخية وللتنقيب عن حياة ممارسيه”، مؤكدا “أن التراكمات الحاصلة في المدح واختلاف سياقاته واهتمامات الباحثين فيه والمتصدين لنصوصه، إنما هو ناتج عن غياب حوار حول المدح”.
وأضاف ولد بلال أن “من اهتموا بهذا اللون ومارسوه وأسهموا فيه ظلوا عاجزين عن نقاش مضامينه وتفكيكه بواعثه، بسبب غياب من يبادر لانتشال المدح من كنه الحبيس فيه زمانيا على الأقل، حيث لم يستطع أخذ منحى الفنون الأخرى، وهو حقيق بذلك، وفق تعبيره. مستدركا أن المدح “بقي يسير في دوامة جعله فلكلورا ترفيهيا دون الاطلاع على قيمته الوجدانية والفنية وأبعاده الماورائية وازداد ذلك مع توجه المداحة من الوسط البدوي نحو المدن”.
الندوة الحوارية التي تأتي ضمن فعاليات مهرجان ليالي المدح في دورته الرابعة بحثت تاريخ المدح وظروف ممارسيه، مستجلية واقع الفن والطرق الكفيلة بإعادته وبعثه كتراث قابل للاستمرار بشكل معيش، الأمر الذي أكد عليه الباحثان الرئيسيان في الندوة وهما الدكتور محمد الأمين ولد إبراهيم، والأستاذ يعقوب ولد السالك.
ورأى الدكتور محمد الأمين ولد إبراهيم الامين العام لمركز الصحفية للدراسات الاستراتجية في بحثه المعنون بـ “المدح النبوي الشعبي في موريتانيا .. المدلول والخصائص”، أن المدح إنما “ينتمي فن المدح الشعبي في موريتانيا إلى صنف التراث غير المادي الذي يعني الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات- وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية- التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانا الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي”.
ويؤكد ولد إبراهيم أن “المدح النبوي الشعبي هو مزيج من الثقافة الزنجية الإفريقية والثقافة العربية الإسلامية، فبالنسبة للثقافة العربية الإسلامية تتجلى في الطابع الديني، من خلال محتوى الأغاني المخصص لمدح الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي هذا الصدد يتم التغني به ليلة الجمعة، وفي المولد النبوي الشريف، وطيلة شهر رمضان الكريم”.
وأشار المحاضر إلى أن “المدح النبوي الشعبي ارتبط في الثقافة الموريتانية ببعده الديني فغلبت عليه الرغبة في نيل الثواب الأخروي، لهذا اختير لأدائه ظرف زماني خاص مثل ليلة الجمعة”، مستدركا: أن المدح “مثل صورة من صور الاندماج في المجتمع البيظاني أكثر من ما ذهب إليه البعض في جعله شكل من صور التعبير أو التوق إلى الحرية وخروج عن رتابة الحياة الصعبة التي يعيشها متعاطيه”.
من جانبه ركز الأستاذ يعقوب ولد السالك في بحثه على مميزات المدح في ولاية إينشيري، مؤكدا أن الولاية شهت خلال تاريخها ومنذ نشأتها بروزا لفن المدح متماش مع الفنيات السائدة في مختلف جهات البلاد، إلا أنه طبع بطابع خاص جعله فريدا من نوعه مارسه مجتمع لحراطين.
وأكد الباحث أن ولاية إينشيري كانت تتميز بانتشار ظاهرة المداحات وهن نسوة، يمدحن ولسن مجرد معاونات في الفرق المديحية”، ذاكرا أسماء عدد من المداحات و”منهم على سبيل المثال لا الحصر لغويلية دديه، وهي فنانة مشهورة في ولاية إينشيري ولها الكثير من المدح، مشيرا إلى انتماءها لمجتمع البيظان، بالإضافة إلى المداحة بيبه منت ألويمين وكان لها مركز للمدح في بيتها الذي يرده المداحة من كل مكان، للتعلم والاستمتاع بسهرات المدح.
واعتبر ولد السالك أن في الولاية كثيرات من المداحات ومنهن أمنات اجويري يمدحن ويعزفن لأنفسهن، بالإضافة إلى بنات أعمر ولد حبيب، مؤكدا أن ذلك “يعني أن ولاية اينشيري كانت لها مكانة خاصة في المدح بموريتاني، وكان لأهلها تقاليد مرافقة لأداء المدحات”.
وقال المحاضر أن المداح عثمان كان من سفراء المدح الكبار في أينشيري، حيث طبع مدرسته طابع روحي خاص جعلهم يتفاعلون مع المدحات بشكل لافت في الحركات والتصرفات، وكان للمداح عثمان جمل “دبلوماسي” وفق تعبير المحاضر، يزور به أماكن مختلفة للتواصل مع المداحة من مختلف الجهات.
الندوة التي اختتمت في وقت متأخر من ليل الجمعة حضرها عشرات المثقفين والإعلاميين والمهتمين بالفنون والتراث والثقافة، كما تضمنت مداخلات للعديد منهم أكدت مجملها على ضرورة دعم الدولة لهذا الفن من خلال، تمويل أنشطة مركز ترانيم للفنون الشعبية.