من المعلوم بداهة أن الحقل السياسي في بلادنا تنتابه تجاذبات وصراعات، تجمع بعض القوم أحيانا وتفرق بعضهم، توحد أناسا وتفتح باب العداوة السياسية-على الأقل- بين الآخرين على مصراعيه؛
ولئن كان البقاء على الحلبة السياسية يقتضي توفر إمكانيات الإقناع أكثر وإظهار حجم الجهد وكشف آليات التفوق ومحددات الاستمالة والصمود؛ فإن الكلام السياسي المعزول عن الفعال، هو عين اللهو المعاد؛ الذي يفقد رنته الإلهائية بعيد كل جرجة مسائية!؛ تعاد فيها نفس الحركات و الخطوات في ذات الطريق بين ركني المسعى الثابتين.
عندما قرر النظام الحالي من خلال رأس الحكومة المضي قدما في إنجاح واعتماد ما تقدم به من مقترحات لتعديل الدستور؛ رمى بفلذة الكبد وقاس طبقا للحجم وأحكم مراعاة التناسق فأنشد التأثير الإيجابي بثقة تامة مدعومة بالميكانيزم المحدد لذلك.
لقد عزف رأس الحربة في هذه العملية الشاغلة للرأي العام، المسيطرة على ظرفي الزمان والمكان؛ على وتر التأثير والتمكين فضرب في العمق بعصا صلبة غليظة ممسوكة من المنتصف؛ فالتف حوله القوم وتجمهروا ثم أعلنوا مواقفهم وجهروا بها وصدحوا، ومن هنا يظهر البون شاسع والفرق منجل في تمام وضوح؛ مما يشي دون مرية أن أصحاب القبول سواد عظيم وأصحاب الرفض دخن يسير، هذا ما أظهرته الصورة ووثقته العين.
لقد قسمت تداعيات مقترحات تعديل الدستور المهتمين إلى: -أصحاب قبول ينشدون التصويت بنعم للتعديلات الدستورية، بوصفها تاج الإيجابية؛ لما تنطوي عليه -حسب عرفائهم- من إصلاحات وتغييرات ومحددات تتلون بألوانها الصورة المستقبلية لواجهة الجمهورية؛
وهناك طيف آخر يسعى إلى المشاركة لكن بإعلان عدم القبول والتصويت ب "لا" ؛ إفشالا لما يراه النظام ومؤيدوه ضرورة ومصلحة ويراه هذا الطيف عبثا وتجني؛
طيف آخر عريض حسب المعارضين متلاش منقسم حسب الموالين؛ يرى أن في المشاركة مباركة وإعانة للنظام وإسهاما في التمكين؛ حتى وإن كان خيار التصويت تطبعه "لا".
إن المتتبع لكل حركات وسكنات هؤلاء وخرجاتهم ومسيراتهم ومهرجاناتهم ومبادراتهم؛ يدرك أن كل طرف يحاول مناصروه إظهاره في صورة أقوى الأقوياء وأشد الأشداء، وإن كانت الحقيقة تثبت عكس ذلك، وهنا بالذات لا يمكن فوات النفخ في حجم مسيرات الخامس عشر من يوليو؛ التي لم تظهر الحجم الموازي لمهرجانات النظام؛ التي صاحبت زيارات"الوزير الأول" لبعض الولايات، بل كانت دون ذلك كثيرا ولئن كانت هي الحجم الحقيقي لمناصري هذا التيار فإن الاستفتاء ماض في اتجاه "نعم"
إننا كمواطنين نهتم بما يصب في مصلحة هذا الوطن وما يضمن أمن وأمان واستقرار ورقي شعبه؛ نتطلع إلى إنجاح ما من شأنه تجسيد ذلك ولا نبالي بعدها في أي الجانبين كان التصنيف ولا على أي نحو كانت عبارات المقابلة والتقييم؛ مدحا وتثمينا أو تخوينا وتنقيصا.
إن ما تفتقر إليه الساحة السياسية اليوم هو ظهور طيف سياسي استثنائي؛ يرفض التبعية العمياء لكل الشخصيات السياسية الراديكالية، لقد سئمناهم جميعا سئمنا خطاباتهم، أعيتنا رتابة أحزابهم، أصابتنا وجوههم الثابتة الصامتة صمت "هبل" بالملل.
ما ذا لو أزيحت كل تلك الأصنام وحل محلها أناس لم يمارسوا الكذب السياسي والخداع الخطابي أصلا؟
هل فكرنا يوما في تغيير المسار السياسي التقليدي؛ الذي لم يسمن سياسيا ولم يغن فيها من جوع؟
متى ستظهر في بلادنا حركات شبابية جادة تتبنى التغيير البناء وترفض التقليد الأعمى والارتهان الموروث وتتبع نفس الخطوات المثقلة بالعثرات؟.