العالم أمام نفاذ مفاجئ للسلع

أربعاء, 06/02/2021 - 11:13

من جديد يدفع العالم ثمن سباق محموم بين الصين من جهة والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى، ولكن هذه المرة ربما تكون التكلفة موجعة خاصة للبلدان الفقيرة التي تعتمد في أغلب احتياجاتها على الاستيراد، حيث تكاد تشهد الأسواق العالمية نفاداً في السلع الأولية وارتفاعاً حاداً في أسعارها، وتعمل الصين على تخزين واسع للمواد الأولية للاستمرار في عمليات الإنتاج المحمومة بعد تلاشى تداعيات جائحة فيروس كورونا في ثاني أكبر اقتصاد بالعالم، فيما تشهد الولايات المتحدة أكبر اقتصاد على وجه الأرض ومن ورائها أوروبا نهماً للاستهلاك بعد الخروج من الإغلاق الناجم عن الأزمة الصحية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الطلب المكبوت.

وتصل عمليات التخزين التي تقوم بها الشركات العالمية في مختلف القطاعات إلى حد الجنون، حيث يتسابق المنتجون في مختلف القطاعات لشراء كل شيء بكميات تفوق ما يحتاجون إليه من مواد خام، لتفادي السرعة الفائقة في زيادة الطلب على السلع، والتصدي لمخاوف نفاد المعروض مع تعافي الاقتصادات.

ويدفع ذلك الجنون، سلاسل التوريد، إلى حافة الانهيار، مما وصل بنقص الإمدادات، واختناقات النقل، وارتفاع الأسعار لمستويات قياسية، لم نشهدها في السنوات القريبة، الأمر الذي يزيد مخاوف انفجار موجة من التضخم قد تضرب الاقتصاد العالمي.

وعانت أغلب المواد الأساسية من النحاس، وخام الحديد، والصلب من نقص الإمدادات، وكذلك الذرة، والبن والقمح، وفول الصويا وصولاً إلى الأخشاب، وأشباه الموصلات، والبلاستيك، وكرتون التغليف.

وقال توم لاينبارغر، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة "كومينز" المُصنعة للمحركات، والمولدات الكهربائية في تصريحات صحافية نقلتها وكالة بلومبيرغ الأميركية نهاية مايو/ أيار: "بغض النظر عن المسمى، فنحن نعاني نقصاً في كل تلك المواد".

كما ذكرت جينيفر رومزي، رئيسة شركة "كومينز" التي تتخذ من ولاية إنديانا الأميركية مقراً لها، أن العملاء "يحاولون الحصول على كل ما في وسعهم لمجابهة ارتفاع متوقع في الطلب.. إنهم يتوقعون استمرار زخم الطلب إلى العام المقبل".

وتشهد تكاليف الطعام ارتفاعات قياسية، وهو أخطر ما تتعرض له الدول الفقيرة والنامية، فقد سجلت أسعار زيت الطعام الأكثر استهلاكاً في العالم المعالج من ثمار زيت النخيل مستوى قياسياً جديداً، بعد أن قفزت بأكثر من 135% العام الماضي.

كما تجاوز سعر فول الصويا 16 دولاراً للبوشل (8 غالونات) للمرة الأولى منذ العام 2012. وسجلت العقود الآجلة للذرة أعلى مستوى لها في 8 سنوات، وارتفعت العقود الآجلة للقمح لأعلى مستوياتها منذ 2013.

وارتفع مؤشر الأمم المتحدة لتكاليف الغذاء العالمية للشهر الحادي عشر على التوالي خلال إبريل/ نيسان الماضي، ليسجل أعلى مستوى في 7 سنوات، إذ تشهد الأسعار أعلى موجة ارتفاع لها منذ أكثر من عقد، بسبب زيادة الطلب على شراء المحاصيل في الصين، مما أدى إلى تقلُّص الإمدادات، وتصاعد المخاوف من تسارع التضخم.

وبدأت انعكاسات الارتفاع العالمي لأسعار السلع الأولية والأساسية تظهر بشكل أكثر حدة في مختلف الدول العربية وغيرها من الدول النامية والفقيرة، ما دعا الحكومات إلى فرض زيادة كبيرة في أسعار بعض السلع، ومنها مصر التي أعلنت يوم الاثنين الماضي عن رفع سعر بيع زيت الطعام على البطاقات التموينية بنسبة 23.5%، مشيرة إلى ارتفاع أسعار المنتج عالمياً بشكل متتال منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كما تشكو الأسواق في الأردن من زيادات حادة في أسعار مختلف المنتجات وتتصاعد المعاناة في لبنان وتونس، وكذلك المغرب الذي أضحى في موقف حرج إذ كان يخطط لتحرير أسعار العديد من السلع تحت وطأة الغلاء العالمي.

صراع على الشحن

وانعكس الصراع على شراء الخامات على عمليات الشحن والنقل العالمي، إذ وصلت السفن والشاحنات والقطارات التي تنقل المواد على طول عملية الإنتاج عالمياً وكذلك السلع النهائية للسوق، إلى مستويات التشغيل الكامل من ناحية قدرتها على نقل السلع بين المصانع والمستهلكين.

وتعمل سفن الحاويات بكامل طاقتها، ما دفع بمعدلات الشحن البحري لتسجيل مستويات قياسية تعكسها حالة الازدحام في الموانئ، للدرجة التي أدت إلى تأخر شحنات البضائع الخاصة بالكثير من الشركات، فضلا عن ارتفاع الكبير في تكاليف الشحن.

لكن المسؤولين التنفيذيين في "ميرسك" أكبر شركة للحاويات في العالم، يتوقعون انخفاضاً تدريجياً في أسعار الشحن البحري خلال الفترة المتبقية من العام، إلا أن ذلك لا يعني العودة لخدمة الشحن البحري الرخيصة التي شهدتها الأسواق العقد الماضي.

وتتوقع شانيلا راغاناياغام، الخبيرة الاقتصادية في بنك "إتش إس بي سي" في تقرير مؤخرا، ارتفاع أسعار المنتجين في منطقة اليورو نتيجة ارتفاع أسعار الحاويات.

وزاد من تفاقم الأوضاع تزامن مجموعة من الحوادث غير الطبيعية التي أثرت بشكل كبير على إمدادات السلع الأساسية في الأشهر الأخيرة، ومنها تعرض قناة السويس المصرية لحادث جنوح ناقلة حاويات عملاقة في نهاية مارس/ آذار الماضي، وقد أثر على قطاع الشحن العالمي.

كما زادت معدلات النقل باستخدام السكك الحديدية والشاحنات أيضاً، فقد سجل مؤشر "كاس" للشحن مستوى قياسيا في إبريل/ نيسان بعدما ارتفع للمرة الرابعة في خمسة أشهر.

وتؤكد شركة "غيرتكا للخدمات اللوجستية" صاحبة أكبر أسطول شاحنات في أوروبا على وجود صراع في عمليات الشحن من أجل تلبية احتياجات المنتجين. وتعاني شركة "مونستر بيفرج كورب أوف كورونا" التي تتخذ من كاليفورنيا في الولايات المتحدة مقراً لها من نقص إمدادات علب الألمنيوم.

كذلك تعاني شركة "موماكس تكنولوكي"، ومقرها هونغ كونغ من تأخر تسليم طلبيات منتج جديد بسبب نقص إمدادات أشباه الموصلات. ويرى بعض المحللين أن أزمة الغلاء قد تنتهي خلال بضعة أشهر.

ولكن بالنظر إلى مؤشر مديري الخدمات اللوجستية الأميركي، الذي يقوم على مسح شهري لتوقعات رؤساء قطاعات التوريد في الشركات لتكلفة المخزون، والنقل، والخدمات اللوجستية، فإن الأمر قد يستمر لفترة أطول.

ويقول زاك روجرز، أحد المشرفين على تجميع بيانات مؤشر مديري الخدمات اللوجستية الأميركي، الذي يعمل أستاذاً مساعداً في كلية الأعمال بجامعة ولاية كولورادو: "باختصار تشير توقعاتنا إلى أن الفجوة بين العرض والطلب ستستمر، وسوف يتسبب ذلك في زيادات بالأسعار خلال الاثنى عشر شهراً المقبلة".

الأزمة ترتد للصين وأميركا

ورغم تسبب الصين والولايات المتحدة تحديدا في السباق المجنون نحو تخزين السلع الأولية، فإن الدولتين قد تدفعان أيضا ثمنا باهظاً في حال انفلات معدلات التضخم فيهما جراء ارتفاع أسعار المنتجات النهائية التي سيدفع ثمنها المستهلك في نهاية المطاف.

وبدأت نبرات التحذير من التضخم في أكبر اقتصادين بالعالم تتصاعد في الأيام الأخيرة، حيث أعلن مجلس الوزراء الصيني عن خطوات لضبط الأسواق وإبقاء ضغوط التضخم تحت السيطرة.

وفي اجتماع ترأسه لي كه تشيانغ، رئيس مجلس الدولة، الأربعاء الماضي، قال المجلس إنه ينبغي بذل المزيد من الجهود لمنع تمرير ارتفاع أسعار السلع الأساسية إلى المستهلكين، وفقاً لتقارير نقلتها وسائل الإعلام الحكومية.

وتعهدت الحكومة بتوفير مزيد من الإمدادات المحلية لتخفيف الأسعار، وتشديد الرقابة على الأسواق الفورية وأسواق العقود الآجلة، كما تعهدت باتخاذ إجراءات صارمة بشأن المضاربة والادخار، وذلك بعد أن قفزت أسعار المنتجين في الصين بأسرع وتيرة لها منذ أكثر من ثلاث سنوات في إبريل/ نيسان الماضي، مما زاد من مخاطر التضخم العالمي، وهو أمر يزيد مخاوف انتشار ضغوط الأسعار على نطاق أوسع في الاقتصاد بأسره.

وقد حققت التهديدات المبطنة التي أطلقتها الحكومة الصينية بعض النجاح، حيث انخفضت أسعار خام الحديد المحلي بأكثر من 20% منذ 12 مايو/ أيار الماضي، لكن بنك الاستثمار الأميركي "غولدمان ساكس" اعتبر في تقرير له نهاية مايو/ أيار الماضي، أن الصين فقدت السيطرة على أسعار السلع الأساسية، و"من المرجح أن تذهب جهودها لكبح جماح ارتفاع الأسعار هباءً".

وقال محللو "غولدمان ساكس" بقيادة جيف كوري في مذكرة نشرت مؤخراً إن سرعة الانتعاش في الاقتصادات المتقدمة، ولا سيما الولايات المتحدة، تعني أن الصين لم تعد هي المشتري الذي يُملي الأسعار. ووفق التقرير فإن هناك "أدلة متزايدة على أن السلع لم تعد تتمحور حول الصين".

ويُعزى السبب الرئيسي لقوة الولايات المتحدة الأكبر في السوق إلى التحفيز المالي لواشنطن. وبدأت أزمة الإمدادات تجبر المصانع الصينية على كبح التوسعات وخفض الاستثمارات في الأيام الأخيرة.

كما بدأت الزيادة في التكلفة تنعكس على الأفراد والشركات في الولايات المتحدة، وهو ما ظهر في بعض المؤشرات الدالة على ذلك. فقد قفز مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي في الولايات المتحدة الذي يستثني الغذاء والوقود في إبريل/ نيسان على أساس شهري بأكبر وتيرة منذ عام 1982.

كما جاءت ارتفاعات الأسعار التي فرضها المنتجون الأميركيون على السلع ضعف توقعات الاقتصاديين في ظل سعي الشركات إلى تمرير ارتفاع التكلفة إلى المستهلكين، وتعزيز الإنتاجية للحفاظ على هوامش ربحيتها.

أسعار النفط تتجه لمزيد من الارتفاع هذا العام

وزادت تحذيرات الخبراء من تسارع التضخم، وهو ما تسبب في حالة من القلق بالعواصم، والبنوك المركزية، والمصانع، والمتاجر الكبرى كافة، في الوقت الذي تزداد فيه الضغوط على الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لتحديد توقيت رفع أسعار الفائدة لكبح التضخم في ظل التوترات السياسية التي تحيط بإمكانية تطبيق خطط الإنفاق التي وضعها الرئيس جو بايدن.

وتوقع بنك "جي بي مورغان" الأميركي، في مذكرة له مؤخرا ارتفاعاً مستمراً للسلع الأساسية في ظل استمرار المضاربة. كما قال جيوفاني ستونوفو، محلل السلع في مصرف "يو بي إس" السويسري إن "أهم العوامل التي تدعم أسعار السلع الأساسية هي التعافي الاقتصادي العالمي والتسارع في مرحلة إعادة الانفتاح".

ويمكن أن تكون الارتفاعات الهائلة لأسعار السلع، أخباراً جيدة للمالية العامة للدول المصدرة، وعلى سبيل المثال، تجني أستراليا (خام الحديد)، وتشيلي (النحاس)، وإندونيسيا (زيت النخيل)، مبالغ ضخمة من بيع السلع الأساسية.

أما الدول المستوردة وتلك التي تتطلع إلى إعادة بناء البنية التحتية، فهي تصطدم بأن القدرة الشرائية لميزانياتها أقل مما كانت عليه من قبل.
وكالات