عقيد متقاعد يكتب: وداع..

خميس, 01/28/2016 - 18:47

ها هو الوقت قد حان لأقول لك : " إلى اللقاء يا صين "

سأودع فيك أهلا ومكانا سهلا، أي مضيفا لن أنسى أنه وفر لي إيواءاً كريما خلال شهور كانت لي بمثابة عقود غنية بالتريث، بالإحساس، بالدروس، بالاكتشافات، بالتعلم... و كأني بالمدرسة أو الجامعة.

سأودعك ـ إذن, و أنا ينتابني حزن كتلميذ يغادر مدرسه العظيم رغما عنه.

سأفصح عن وداعي لك، أنت المغذية لفضول العالم الذي لا ينضب.. أنت التي تسقي بسخاء الحضارة البشرية بروافدك المتعددة... فكيف يمكن لنا أن نتصور العالم على مر العصور بدون تاريخك العريق الذي يمد جذوره بعيدا جدا في الزمان.. بدون أصالتك الجذابة و المحيرة في آن واحد.. أي بدون ثروتك الثقافية و البشرية و مفارقاتاها التي تبهر كأسطورة سحرية ؟ كيف يمكننا تصور عالمنا اليوم بدون حيويتك الاقتصادية و الفكرية المثيرة لغَيرة الحاسدين مهما كانت و تيرتها.. أي بدون منتوجاتك و إبداعاتك التي تلون كوكبنا رغم ما تواجهين دائما من منافسات و تحديات لا ترحم.

 

    نعم سأودعك.. أنت العالم و أنت أيضا التي تشكلين في ذات الحين عالما آخر...

 

   أنت التي تفتحين أعين الزائر على آفاق أخرى، إذ تمكنيه من قراءة ما يستوحيه مفهوم "لا انتمي"(*) المساير لعصر العولمة.

 

   إن وقع تأثيرك عليه، أي على"الآخر" الذي لديه نظرة قاصرة بالمقارنة بالرؤى البعيدة " للغول الأسطوري الجميل" ذي العيون البراقة و المتعددة الذي هو رمزك. فأنت تعطي للمراقب صورة عنك لا تترك مجالا   لغض الطرف و لا للجمود. بل بالعكس تماما: ينبثق عنها شعور و إحساسات  تدفع به إلى التفكير مليا في ما حوله, و كأنه يعيش ولادة جديدة يكسب فيها معالم مغايرة للتي ألفها الكثير من الناس بشأن الانتماء إلى حيز ثقافي دقيق... ذلك الحيز هو ما يرفضه الكاتب (كريم مسكه) الذي استشهدت بكتابه آنفا. لأنك تضفي على الزائر بثياب زاهية.. ظلال ألوانها متباينة التطريز... فتجرفه تيارات ذات طاقة لا تنضب شيئا فشيئا بعيدا عن العقبات و العوائق الناجمة عن أحادية الهوية و إطارها الضيق.

 

   و حسب قراءتي المتواضعة فهذا هو بيت القصيد في ''نفي'' الهوية الذي أراده الكاتب و مؤلف الأفلام الوثائقية الموريتاني الفرنسي كهوية في حد ذاتها.

 

   أما على مستوى بلد مثلك، فإنك تجسدين هذا الطرح المعقد بطريقتك الخاصة، أي تبعا لآليات و فلسفة أمة عظمى تنصب رؤاها في كل الاتجاهات حيث لا يحد من اتساع زاوية و بعد نظرتها الطموحة سوى احترامها لغيرها، احترام هو محركها.

 

   و هذا المحرك هو ما جعلني اقرأ عظمتك و عزة روحك في كتابات و أعمال المؤلفين ذوي الرؤى المتعددة المشارب و الروافد.

 

   و من هؤلاء الكاتب الذي سبق ذكره. فهو قد انطلق من موقع فردي متعدد الأقطاب : يستمد إلهاماته من أوروبا، و من إفريقيا، و من مواطن أخرى... من هذه المصادر كلها مجتمعة بني لنفسه هوية غنية المشارب : التعدد الثقافي و الحضاري هو عمودها الفقري.

 

   أما أنا، فبناءََ على تجربتي منذ وطأت قدماي هذه الأرض، فإن تفكيري لا يختلف كثيرا عن (كريم مسكه).

 

   فعلا إني أحس ـ و أنا في نهاية مقامي في دولة ـتأسست على أقدم حضارة متواصلة على المعمورة ـ بأن رؤيتي ازدادت بمعالم كثيرة أكسبتها بعدا وخبرة في الحضارة الكونية لم أكن لأحصل عليهما لولا الصين، و قد بلغ تأثري بهذه التجربة حدا لم أعد معه متأكدا تماما بانتمائي حَصرياً للبلد الذي احمل جنسيته .

 

    إلى اللقاء يا صديقتي العزيزة ، فقد أعطيتني الكثير

 

  إلى اللقاء أيتها الصين الكريمة و الجميلة.

 

   ها أنا أعود إلى بيتي في موريتانيا على بعد آلاف الأميال من هنا، غير أني لا و لن أغادرك.

 

 

 

بيجين، أغسطس 2015،    العقيد البخاري محمد مؤمل